السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

قال تعالى: "وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ"

مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"

لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي

الحلقة السادسة والعشرون

 

قال تعالى: "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ" (الأنبياء: 80)، كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح فهو أول من سردها وحلقها فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام ابد الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.

وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: "فَهَلْ أنتُمْ شَاكِرُونَ" (الأنبياء: 80) أي: على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر الله به والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة، وهذا دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والضائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن، وشريعة الديان، قال تعالى: "وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سبأ: 10 ـ 11).

وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع، ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش (1).

وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية : "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد: 25).

هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من التحضير والإبداع والبناء التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءاً أساسياً من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده، وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دوماً عن الحديد "البأس الشديد" متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري و"المنافع" التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كافة مجالات نشاطه وبنائه "السلمي"؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن في مسائل السلم والحرب، وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلماً وحرباً؟

إن الدولة المعاصرة التي تمتلك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل... وتستطيع أيضاً ـ أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها (2).

إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ منح الحديد لداود عليه السلام وعلمه كيف يلينه، لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله، ولاشك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي ...الخ

وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقاً وارتباطاً صميماً بين آية الحديد، وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته "البأس"، ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجيء لكي يعلم الله مَن "يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد: 25).

إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية الإسلام والتقدم به وتحقيق النصر للمؤمنين وإقامة شرع الله في مناحي الحياة.

إن قول الله تعالى :"وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" (سبأ: 10) فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإنسانية في طاعة الله.

---------------------------------------------

مراجع الحلقة السادسة والعشرون:

(1) فقه النصر والتمكين ص 129.

(2) التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل ص 221 ـ 222.

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022