"الأسباب التي اتخذها داود (عليه السلام) للتمكين لدين الله تعالى" ..
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الخامسة والعشرون
قال تعالى: "فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: 251). بين القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان مجاهداً في جيش طالوت، وممن نجحوا في الامتحان العسير الذي قرّر رئيس الجيش أن يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح فقد رفع داود عليه السلام راية النصر، وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت، وكان إذ ذاك فتى، وتم له الظفر، فالتقت على محبته القلوب، وتأكدت له أوامر الإخلاص، وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل، يكنون له في نفوسهم الإحترام والمحبة، والتوقير.
ومنذ ذلك الحين بدا نجمه يصعد في السماء ويتنقل من ظفر إلى ظفر، ويجيئه النصر يتبعه النصر، حتى ولي الملك أخيراً وأصبح ذا سلطان وظهرت ملامح الحكم في زمنة في عدله وحكمه، وكان أوّابا رجاعاً إلى ربه بالطاعة والعبادة، والذكر والاستغفار.
لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلام هو الصراع المسلح بين قوى الخير والشر والإيمان والكفر، والهدى والضلال، وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم. قال تعالى: "اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص : 17 ـ 20).
أ ـ أخلاقه القيادية :
إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلام يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له وهي تحقق للقائد المسلم كمال السعادة في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه الصفات.
الصبر: فقد أمر الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
العبودية: وقد وصفه ربه بقوله: "عَبْدَنَا"، وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم والوصف بالعبودية لله غاية التشريف كوصف محمد صلى الله عليه وسلم بها ليلة المعراج "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" (الإسراء : 1) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود عليه السلام تحدث عنه بيَّن فضله وإجتهاده في العبادة: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً (1).
القوة على أداء الطاعة: والاحتراز عن المعاصي في قوله: "ذَا الْأَيْدِ....".
الرجوع إلى الله بالطاعة في أموره كلها، في قوله تعالى: "إِنَّهُ أَوَّابٌ". وصف بالقوة على طاعة الله وبأنه أواب دليل على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج رباني صحيح.
تسبيح الجبال والطيور معه: "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ" (ص : 18ـ 19) أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: "يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" (سبأ : 10).
قال ابن كثير: وكذلك الطير تسبح بتسبيحه، وترجع بترجيعه إذا مر به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات، وترجع معه، وتسبح تبعاً له (2).
قوة الملك :"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" (ص: 20) أي: قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكاً كاملاً في جميع ما يحتاج إليه الملوك.
الحكمة: "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" (ص: 20) أي: أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب.
حسن الفصل في الخصومات: "وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص: 20) أي: وألهمنا حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل (3).
إن داود عليه السلام شدّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة، فكان عليه السلام يسبح بالعشي والإشراق وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل وكذلك تجاوبت الطيور، قال تعالى:"إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" (ص: 18) . فوهبه الله هبة عظمى ذكرها في كتابه عز وجل :"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص: 20) ، الذي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع الملوك العظماء، بحيث لا يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه، وكثافة حراسه الذين قيل: إنهم كانوا ألوفاً كثيرة يتناوبون في حراسته ولم ينكسر له جيش في معركة أبداً بعون الله ونصره (4).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الخامسة والعشرون:
(1) مسلم ، رقم 189.
(2) تفسير ابن كثير (4/ 29) .
(3) تفسير المنير لوهبة الزحيلي (23/ 183 ـ 185) .
(4) تفسير القرطبي (15/ 162) .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: