من ثمار الإيمان بالقدر: السكينة وراحة النفس وسكون القلب ...
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة السادسة والخمسون
السكينة وراحة النفس وسكون القلب وغيرها من الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدف منشود، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها، وإنك لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين، من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال ولا يدور حول ما يشبهه خيال، فلهم في ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب الأوفى، فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر (1).
وهذا ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة ، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (2)، ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (3).
بل إنك تجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار الكتاب والمفكرين والأطباء من غير المسلمين، فكم من الأطباء غير المسلمين على سبيل المثال من يعجب، ويذهب به العجب كل مذهب، وذلك إذا كان لديه مريض مسلم واكتشف أنه مصاب بداء خطير ـ كالسرطان ـ مثلاً فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار هذا المريض ومصارحته بعلته، فتجده يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشية من ردة فعل المريض إزاء هذا الخبر، وما أن يعلمه بمرضه ويخبره بعلته، إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبل هذا الخبر بنفس راضية وصدر رحب، وسكينة وهدوء، لقد أدهش كثيراً من هؤلاء إيمان المسلمين بالقضاء والقدر فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وارتفاع معنوياتهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة (4)، فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله وبقضائه وقدره.
ومليحة شهدت لها ضراتها والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا في ذلك ـ الكاتب المشهور "ر. ن. سي. بودلي" مؤلف كتابي "رياح على الصحراء" و"الرسول" وأربعة عشر كتاباً أخرى، والذي أورد رأيه "دبل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة" في مقالة بعنوان "عشت في جنة الله" يقول بودلي: في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية، الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء وقضيت هنالك سبعة أعوام، وأتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم وآكل من طعامهم، واتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد صلى الله عليه وسلم وعنوانه "الرسول"، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والإطمئنان والرضا بالحياة، وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، فهم ـ بوصفهم مسلمين ـ يؤمنون بالقضاء والقدر، ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً عل أمر، إنهم يؤمنون بأن " ما قدر يكون" وأن الفرد منهم "لَّن يُصِيبَه إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَه"، وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيادي كلا " (5).
ثم أردف قائلاً: ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه، هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال وادي "الرون" في فرنسا وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، ولكن العرب لم يشكو إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة "قضاء مكتوب"، لكنهم ما أن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتهم، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى، قال رئيس القبيلة الشيخ: لم نفقد الشئ الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شئ، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد (6).
وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً فانفجرت إحدى الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار إحتياطي، وتولاني الغضب وانتابني القلق والهم، وسألت صاحبي من الأعراب: ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق، ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ، وهنالك أيضاً لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يقطعون الطريق سيراً على الأقدام (7).
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله: قد اقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل ـ أن مرضى النفوس، والسكيرين الذي يحفل بهم أمريكا، وأوروبا ـ ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها، إنني لما أعان شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا (8).
وأخيراً ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ـ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير (9).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة السادسة والخمسون:
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن الحكم ص 97.
(2) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، لمرعي الحنبلي ص 34.
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية، جهاده ودعوته أحمد القطان ص 101.
(4) الإيمان بالقضاء والقدر، محمد إبراهيم الحمد ص 32.
(5) الوسطية في القرآن الكريم، للمؤلف ص 344.
(6) دع القلق وأبدأ الحياة، ديل كارنيجي ص 290، 291.
(7) المصدر نفسه ص 290 ـ 291.
(8) المصدر نفسه ص 291 ـ 295.
(9) الوسطية في القرآن الكريم ص 346.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: