في بيت خديجة (رضي الله عنها)
الحلقة السادسة والأربعون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
ربيع الآخر 1443 هــ / ديسمبر 2021
- حب شريف:
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو في مقتبل عمره وريعان شبابه، بينما كانت قد جاوزت الأربعين من عمرها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها امرأة حتى ماتت، وكانت أم أولاده جميعًا، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب خديجة رضي الله عنها، فقد تعرَّف عليها من خلال معاملة تجارية؛ حيث ذهب ببعض ثروتها إلى الشام مع غلام لها، ثم عاد بالربح الوفير، ورأت عليه أمارات الأمانة والصدق فأكرمته وأجلته، فتزوجها صلى الله عليه وسلم .
- ذكريات عذبة:
ولما ماتت خديجة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها ويثني عليها، حتى إن عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها، مع أنها لم ترها؛ حيث كانت جارية في حداثة سنها، فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت سبع، ودخل عليها وهي بنت تسع، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشرة من عمرها، ومع ذلك فقد كانت عائشة تغار من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها.
- وفاء نادر:
وفي يوم من الأيام استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، فسمع صوتها فإذا به يشبه صوت خديجة رضي الله عنها، مَن هي هذه المرأة يا تُرى؟! إنها هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرح مسرور: «اللَّهُمَّ هالَةُ». يفرح لأختها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ويبعث بها إلى صديقات خديجة رضي الله عنها، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يذكرها، حتى إن عائشة رضي الله عنها قالت له يومًا: يا رسول الله، ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها؟! تعني نفسها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمل، بل يكرر ويقول لعائشة في هذا الموقف نفسه: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عز وجل خَيْرًا مِنْهَا»، وفي رواية: «إنَّها كانَتْ وكانَتْ وكانَ لِي مِنْها وَلَدٌ». بعفوية تامة يكرر السيرة من جديد ويقول لها: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا».
أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانٍ لنا إنّ ذكرَهُ *** هُوَ المِسْكُ مَا كرَّرْتَهُ يتضوَّعُ
ومع هذا الوفاء الرفيع منه صلى الله عليه وسلم لزوجته نقف عدة وقفات:
أولًا: أن هذا درس كبير في الوفاء والحفاظ على الود، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ حُسْنَ العهد مِنَ الإيمانِ». فلقد ماتت خديجة رضي الله عنها، لكن حبها لم يمت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل كان يفخر ويجاهر به، ويقول- كما تقدم- : «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا». فاعتبر حبه لها رزقًا يفرح به صلى الله عليه وسلم، ولا يستخفي ولا يستحيي أن يقول بحضرة أصحابه أنه كان يحب خديجة، والناس اليوم أحوج ما يكونون إلى أن يتلقوا هذا الدرس العظيم في الوفاء ونماذجه من المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أن هذا درس مهم في بناء العلاقات الاجتماعية بين الناس، فمثلًا: مع الزوجين: ربما يعيش الزوجان في حياتهم الأولى ألوانًا من السعادة، لكنك تتساءل: إلى متى يستمر ويمضي هذا الحال؟ وهل ستظل هذه العلاقة الحميمة الجميلة الرائقة بينهما أم أنها سوف تعدو عليها العوادي وتتغير ولو بعد حين، وتنقلب إلى مشكلات، وخصام ونفار، وأخذٍ وردٍّ، وصراخ وصياح؟!
إن للحياة الزوجية تبعات ومسؤولية، وإن من أسباب نجاح البيوت الإسلامية التعامل بقدر طيب من الروح الأخوية والود، والصفاء والوفاء بين الزوجين؛ إنه لمن الضروري لكل مسلم في كل وقت وخاصة في هذا العصر- عصر النخاسة الإعلامية- الذي أصبح فيه الرجل والمرأة على حد سواء، يرون من خلال ما يعرض على الشاشة من الأفلام والمسلسلات والأغاني المصورة وأشياء كثيرة ما يشدهم إلى الشهوة والاندفاع الجسدي البحت، وقد لا يجد الرجل أو المرأة في شريك العمر المواصفات التي يرونها على الشاشة؛ لا من الناحية الشكلية ولا الجسدية ولا غيرها؛ فهنا تصبح الحاجة ملحة إلى أن نتعلم دروس الوفاء والحفاظ على عقد أبرمناه فيما بيننا، وسماه ربنا تبارك وتعالى: ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]؛ لئلا يتحول إلى شكل وصورة، ومن ثم تؤول مؤسسة الزوجية إلى فشل ودمار وانهيار.
إننا في حاجة ماسة إلى تلقي مثل هذه الدروس للزوج والزوجة قبل الزواج وبعده، من أجل المحافظة على الحياة الزوجية، والتعامل بقدر طيب من الود والعلاقة والحب، والصبر والتحمل، وتقدير ظروف الآخر.
ثالثًا: لا بد من الوفاء مع الأصدقاء، وزملاء العمل، وزملاء الدراسة، فكلنا قد عشنا في مراحل معينة: ففي المرحلة الابتدائية لك أصدقاء، وفي المتوسطة والثانوية، وفي الجامعة، وهؤلاء الأصدقاء قد تفرَّقت بهم السبل، وانتقلوا إلى أعمال مختلفة، وبلدان مختلفة، وربما اختلفت فيما بينكم الأفكار والاجتهادات والرؤى وأشياء كثيرة جدًّا، ولكن يظل الوفاء خلقًا يحكم العلاقة فيما بينكم.
كذلك الوجه الطيب الذي أحببته يومًا من الأيام وكنت معه على مقاعد الدراسة، أو في مكاتب العمل، أو في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو في ميادين الوظيفة الدنيوية، أو حتى مع الجيران الذين عايشتهم يومًا من الأيام، وكنت معهم في مدارج وملاعب الصبا، ثم بحكم التوسع العمراني انطلقت إلى حي آخر، أو بحكم ظروف العمل انتقلت إلى مدينة أخرى؛ لكن تظل هذه الأسماء ذكريات جميلة، قد لا تستطيع التواصل دومًا وأبدًا مع هؤلاء، لكن هناك اتصال بالهاتف، أو حتى رسالة جوال بين الوقت والآخر، أو تهنئة بمناسبة العيد، أو بمناسبة دخول شهر رمضان أو غيره.
وما الذي يمنع أن يكون هناك نوع من الاتصال والزيارة والرحلة والعمل المشترك الذي يجمع زملاء العمل الذين تخرجوا من هذه المؤسسة جميعًا ولو كان ذلك في الشهر مرة، أو في ستة أشهر مرة، أو في السنة مرة؟!
وإن أقل ما يمكن أن يكون لهم في قلبك وفاء، فإذا قابلت هذا الإنسان الذي شاهدته أو رأيته أو عرفته أو أحببته أو جاملته، إذا قابلته لا تقابله بوجه بارد، وابتسامة منطفئة، وكلمات رخوة! لا، بل جدد العهد، وأعطه مشاعر طيبة، وكلمات رائقة، ودعوات صادقة، وعبر عن شعورك وتأسفك عن الانقطاع، وأن ظروف المعيشة والعمل والارتباطات... وأشياء كثيرة جدًّا هي سبب عدم الاتصال فيما بينكم.
يجب أن تكون علاقة حسن العهد والوفاء قائمة بيننا وبين زملائنا وأصحابنا، وأصدقاء الطفولة، وأصدقاء الشباب، وأصدقاء الدراسة، وزملاء العمل، وزملاء الحارة أو الحي، وغيرهم من الناس الذين كتب وقدر علينا أن نلتقي بهم في يوم من الأيام.
رابعًا: من أرقى وأعظم صور الوفاء: الوفاء مع مَن أحسن إليك، أو قدم لك جميلًا؛ لأن الروح التي تسعى إلى تقديم الجميل بين الناس هي روح راقية، والإسلام يحث كثيرًا على أداء الجميل والإحسان إلى الآخرين، وفي المقابل يحث على حفظ هذا الجميل وعدم نكرانه؛ لأن نكران الجميل يجعل الآخرين لا يعملونه، فحين أصنع معروفًا اليوم ثم أقابل بنكرانه غدًا؛ فإنه لا يكون عندي نشاط إلى أن أكرر فعل الجميل في المرة الثانية، وكما قال الشاعر الجاهلي عنترة:
نُبِّئْتُ عَمرًا غَيرَ شاكِرِ نِعمَتي *** وَالكُفرُ مَخبَثَةٌ لَنَفسِ المُنعِمِ
إن ذلك الإنسان الذي أحسنت إليه ورد جميلك بالإساءة قد أعطاك درسًا بألا تحسن إلى الناس، وكثيرًا ما تجد مَن يشتكي من الناس، ويقول: إنهم لا يحفظون الود والجميل، وعليه فلا داعي لأن يصنع الإنسان معروفًا. فنقول: لا، بل اصنع المعروف وارمه في البحر، فلا تتذكر هذا المعروف ولا تضعه نصب عينيك، وكلما جاءت مناسبة قلت: لقد عملت كذا وعملت كذا وعملت كذا! نعم، قد تذكره بمناسبة معينة، لكن لا تكرر ذكره على لسانك.
وأيضًا: احفظ الود للذين أحسنوا إليك بالتعليم، والتوجيه، والإرشاد، فقد يكون لك أستاذ في الطفولة، أو في مرحلة معينة، أو شيخ أو داعية أو موجه؛ فاحفظ له الود، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله، وهو من كبار حكماء هذه الأمة الذين تخرجوا من مدرسة النبوة، يقول: «الحرُّ مَن راعى وداد لحظة، وَانْتَمَى لمَن أفادَه لفظةً».
وكلمة (الحر) من الحرية، ومعناها: الرجولة، والشهامة، والنخوة، وجمال الأخلاق الفاضلة، فالشافعي رحمه الله يفسِّر (الحر) بأنه ذلك الذي يراعي وداد لحظة، فلو صار بينك وبين شخص ود للحظة من الزمن وربما انقطَعت وابتعدتم؛ فالحر يراعي هذه اللحظة ويحافظ عليها.
وقوله: أو تمسك بمَن أثابه لفظة. أي: لو أن شخصًا علَّمك حرفًا أو كلمةً أو رأيًا أو فتوى، أو أرشدك ووجَّهك إلى حكمة؛ فإنك تراعي هذا الإنسان، وتحفظ له الود، وتدعو له وتثني عليه.
خامسًا: من أجمل صور الوفاء للبشر والمخلوقين: الوفاء للأبوين، فالإنسان يتخيل والده ووالدته في الطفولة، والذين قد أصبحوا آباء قد جربوا مشاعر الود والمحبة والشفقة التي يعيشها الآباء تجاه أبنائهم، حتى إنه لا أحد يفضِّل غيره على نفسه إلا الوالد، وقد ورد في قصة قوم نوح: أن امرأة كان معها صبي، فلما جاء الطوفان والغرق كانت كلما ارتفع الماء إلى مكان ارتفعت بصبيها إلى مكان غيره، حتى وصلت إلى أعلى قمة جبل، وعندما وصل الماء إلى حلقها كانت ترفع صبيها فوق رأسها، وتتمنى لو غرقت هي وينجي الله تعالى ذلك الصبي! وكما في بعض الروايات: «لَوْ رَحِمَ اللهُ أحدًا من قوم نوح لَرَحِمَ أمَّ الصَّبِيِّ».
فهذا الشعور الأبوي الغامر بالحنان المتدفق ينبغي أن نحفظه لآبائنا بالدعاء لهم، والترحم عليهم، وبحفظ مكانتهم: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24]، فلم يأمر الله تعالى بالذل لأحد إلا لهم فقال:﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24].
إن كثيرًا من الشباب يقولون: إن والدي لا يتفهم ظروفي. وبعض البنات تقول: أمي لا تفهمني. نعم، قد يكون لا يفهمك لأنك من جيل وهو من جيل آخر، فمستوى الثقافة والمعرفة بينك وبينه مختلف، لكن ينبغي أن تسعى أنت إلى فهمه وتقدير ظروفه، وربما يفهمك ولكنه لا يوافقك بالضرورة على كل ما تريد، وربما أنه ينظر إلى مصلحتك من زاوية أخرى، فاستفد من خبرة الشيوخ ومعرفتهم وعلمهم وحرصهم، ولن تجد أبر ولا أحنى ولا أعطف ولا أنصح لك من والديك، وهذا لا يعني أن الوالد دائمًا على حق، لكن بالتأكيد أن الوالد دائمًا وأبدًا محب ومشفق وناصح، وإن من الوفاء الذي نتعلمه من مدرسة النبوة أن نحرص على الوفاء للوالدين.
الخلق العظيم:
وصلى الله على النبي محمد الذي علَّمنا هذا الخلق، وصدق عليه قول القائل:
وَإذا رَحِمـــتَ فَأَنــتَ أُمٌّ أَو أَبٌ *** هَذانِ في الدُّنيا هُما الرُحَمــاءُ
وَإذا غَضِبتَ فَإِنَّمـا هِيَ غَـضـبَـةٌ *** في الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضـاءُ
وَإذا رَضيتَ فَــذاكَ في مَـرضاتِهِ *** وَرِضا الكثير تَحَـــلُّـمٌ وريــاءُ
وَإذا خَـطَـبْـتَ فلِلمَـنـابـرِ هِــزَّةٌ *** تَعْرُو النَّـديَّ ولِلقُلـوبِ بُكــاءُ
وَإذا قَضَيتَ فَــلا اِرتِيابَ كَأَنَّـمـا *** جاءَ الخُصومَ مِنَ السَّماءِ قَضاءُ
وَإذا حَمَيتَ المـاءَ لَم يـورَد وَلَـو *** أَنَّ القَياصِرَ وَالمُلــوكَ ظِــمـاءُ
وَإذا أَجَـرتَ فَأَنـتَ بَـيـتُ اللهِ لَم *** يَدخُل عَلَيـهِ المُستَجيـرَ عَــداءُ
وَإذا مَلَكتَ النَّفسَ قُمتَ بِـبِـرِّها *** وَلَوَ اَنَّ ما مَلَكَت يَـداكَ الشــاءُ
وَإذا صَحِبْتَ رَأى الوَفاءَ مُجَسَّمًا *** في بُردِكَ الأَصحابُ وَالخُلَطاءُ
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي