(انعقاد الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه)
الحلقة: 36
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه، لبيعة المهاجرين والأنصار له لما رأوا لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً وأحبهم إلى الله ورسوله، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً، فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع، فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائر الناس طاعته، وحرم الخروج عليه ومخالفته.
وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم، منهم:
-نقل محمد بن سعد إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه، حيث قال: وبويع لعلي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه، حيث قال: وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمار بن ياسر ، وأسامة بن زيد ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيوب الأنصاري، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله وغيرهم.
-وقال ابن تيمية: واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة». فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه اخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
-وقال ابن حجر: وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فبايعه المهاجرون، والأنصار، وكل من حضر، وكتب بيعته إلى الافاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام، فكان بينهم بعد ما كان.
والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على أحقيتها وصحتها في وقت زمانها، وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه، فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها.
وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه من وجوه:
-تخلف عنه من الصحابة جماعة، منهم: سعد بن أبي وقاص، ومحمد ابن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد، وسواهم من نظرائهم.
-إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان.أن أهل الشام معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه، وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته، وذلك أنها مردودة من وجوه:
الوجه الأول: إن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوى غير صحيحة ؛إذ أن بيعته لم يتخلف عنها أحد، وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرنا، لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد، وأعمل نظره، وأصاب قدره.
وأما ما قاله ابن خلدون: إن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي، والذين شهدوا فمنهم من بايع، ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس، ويتفقوا على إمام كسعد بن أبي وقاص، فقد نقل بيعته ابن سعد، وابن حبان، والذهبي وغيرهم، وكذلك البقية قد بايعوا كما ذكرنا الإجماع في ذلك ممن حضر من الصحابة في المدينة، على أن ابن خلدون نفسه نقل اتفاق أهل العصر الثاني من بعد الصحابة في المدينة، على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين، وقد نقلت ما قاله ابن خلدون ؛ لأن كثيراً من الكتاب والباحثين اعتمدوا عليه فيما بعد.
الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لابد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل متعذر، فلا يجوز اشتراطه لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب، ووقوع الفساد اللازم من انتفائه.
الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار، مع غيبة علي وعثمان وغيرهما من الصحابة، وكذلك حصل الإجماع على خلافة علي بمبايعة سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد وعمار، ومن حضر من البدريين وغيرهم من الصحابة، ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايعه من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً، قال الحسن البصري: والله ما كانت بيعة علي إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان، هذا لا يصح في شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم بعد ذلك.
وأما الروايات التي تزعم أن طلحة والزبير وبعض الصحابة رضوان الله عليهم قد اشترطوا في بيعتهم لعلي إقامة الحدود، فهذا الخبر على ضعف سنده فإن في متنه مقالاً.
الوجه الخامس: إن معاوية رضي الله عنه لم يقاتل علياً على الخلافة ولم ينكر إمامته، وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان، مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده، ولكنه كان مخطئاً في اجتهاده ذلك، فله أجر الاجتهاد فقط.
وقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع علي رضي الله عنه كان في قتل قتلة عثمان، ولم ينازعه في الخلافة، بل كان يقر له بذلك، فعن أبي مسلم الخولاني أنه جاء أناس معه إلى معاوية وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه والطالب بدمه، فائتوه، فقولوا له فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه.
ويروي ابن كثير من طرق ابن ديزيل بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله عنهما: أنهما دخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحق بهذا الأمر منك، فقال: أقاتله على دم عثمان، وإنه اوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام.
والروايات في هذا كثيرة مشهورة بين العلماء، وهي دالة على عدم منازعة معاوية لعلي رضي الله عنهما في الخلافة، ولهذا نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة، وقرروها.
يقول إمام الحرمين الجويني: إن معاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب، وكان مخطئاً.
ويقول ابن حجر الهيثمي: إن ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الحروب لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة، للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع علي. وأراد أن تستقر الدولة، ثم يقدموا للقضاء، وإنما الشاهد هنا هو إثبات عدم مبايعة معاوية، ليس اعتراضاً على شخص علي، وقد ثبت أنه لم ينازع علياً رضي الله عنه أحد في الخلافة لا من الذين خالفوه ولا من غيرهم
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي