الأربعاء

1446-04-27

|

2024-10-30

(الصلح بين معاوية والحسن بن علي رضي الله عنهما)

الحلقة: 41

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م

اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، وفي رواية: قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت.

وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمارة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه، ويرضوا بما رضي به.

ويستفاد من الروايات السابقة: ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه، وقد باشر الحسن بن علي سلطته كخليفة فرتب العمال، وأمر الأمراء، وجند الجنود، وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء مئة مئة، فاكتسب بذلك رضاءهم، وكان في وسعه أن يخوض حرباً لا هوادة فيها ضد معاوية، وكانت شخصيته الفذة من الناحية العسكرية والسياسية والأخلاقية والدينية تساعده على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدي الطائي، وغيرهم في صفه من الذين لهم من القدرات القيادية الشيء الكثير، إلا أن الحسن بن علي مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، والرغبة فيما عند الله، وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب.

وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وقد تنازل الحسن بن علي من موقف قوة، وهناك دلائل تشير إلى ذلك، منها:

أ ـ الشرعية التي كان يملكها:

لقد اختير الحسن بن علي بعد والده اختياراً شورياً، وأصبح الخليفة الشرعي على الحجاز واليمن والعراق، وكل الأماكن التي كانت خاضعة لوالده، وقد استمر في خلافته ستة أشهر، وتلك المدة تدخل ضمن الخلافة الراشدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مدتها ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، فقد روى الترمذي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك».

وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين سنة، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً، وبذلك يكون الحسن بن علي خامس الخلفاء الراشدين.

وقد تحدث عن شرعية الحسن بن علي كثير من العلماء، منهم: أبو بكر بن العربي، والقاضي عياض، وابن كثير، وشارح الطحاوية، والمناوي، وابن حجر الهيثمي، ولو أراد الحسن أن يتعب معاوية بحكم أن الشرعية معه لأمكن ذلك، ولقام بترتيب حملة إعلامية منظمة في أوساط أهل الشام، لكسب ثقتهم، أو على الأقل زعزعة موقف معاوية بينهم، فقد كان يملك قوة معنوية، ونفوذ روحي لا يستهان به بحكم الشرعية التي يستند إليها، ولكونه حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ب ـ تقييم الحسن بن علي للموقف وقدراته القتالية:

فعندما قال له نفير بن الحضرمي: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة، فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، فهذه شهادة الحسن رضي الله عنه بأنه كان في وضع قوي، وبأن أتباعه على استعداد لمحاربة من يريد أو مسالمتهم، كما كان رضي الله عنه يملك من الملكات الخطابية، والفصاحة البيانية، وصدق العاطفة، وقوة التأثير، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجعله أكثر قوة وتماسكاً، ودليلنا على ذلك: ما قام به من استنفار أهل الكوفة للخروج مع والده، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد ثبط الناس، ونهاهم عن الخروج والقتال والفتنة، وأسمعهم ما سمعه من رسول الله من التحذير من الاشتراك في الفتنة، فقد أرسل علي رضي الله عنه قبل الحسن محمد بن أبي بكر، ومحمد ابن جعفر، ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، وأرسل علي بعد ذلك هشام بن عقبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم، وأتبعه علي بعبد الله بن عباس، فأبطؤوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن، وكان للناس أثر واضح، فقد قام في الناس خطيباً وقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى، أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، ولبّى كثير من أهل الكوفة، وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين الستة إلى سبعة الاف رجل، ولا ننسى أن أبا موسى الأشعري كان والياً على الكوفة، ومن قيادات العراق المحبوبين من عهد عمر، وهو من هو في علمه وزهده ومكانته عند الناس، ومع ذلك فقد استطاع الحسن أن يكسب أهل الكوفة لصفه، وخرجوا معه.

ج ـ وجود بعض القيادات الكبيرة في صفه:

كان معسكر الحسن بن علي فيه من القيادة الكبيرة، كأخيه الحسين، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وقيس بن سعد بن عبادة ـ وهو من دهاة العرب ـ وعدي ابن حاتم، وغيرهم، فلو أراد الخلافة لأعطى المجال لقياداته للتحرك نحو تعبئة الناس، والدخول في الحرب مع معاوية، وعلى الأقل يكون خليفة على دولته إلى حين.

د ـ معرفته لنفسية أهل العراق:

كانت له قدرات خاصة في التعامل مع أهل العراق ومعرفة نفوسهم، ولذلك زاد لهم في العطاء منذ بداية خلافته، كما أن مهمته التي قادها في نجاح مشروعه الإصلاحي كانت أصعب من حربه لمعاوية، ومع ذلك تغلب على الكثير من العوائق التي واجهته، فقد حاولوا قتله، ورفض بعض الناس الصلح، وغير ذلك من العوائق، إلا أنه تغلب عليها كلها، وحقق الأهداف التي رسمها من حقن الدماء، ووحدة الأمة، وأمن السبيل، وعودة حركة الفتوح... إلخ؛ مما يدل على قدراته القيادية الفذة.

ه ـ تقييم عمرو بن العاص لمعاوية قوات الحسن رضي الله عنه:

فقد جاء في البخاري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني أرى أن لا تُولي حتى تقتل أقرانها. فقال معاوية ـ وكان والله خير الرجلين ـ: أي عمرو ؛ إن قُتل هؤلاء مَنْ لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له، واطلبا إليه.

-فعمرو بن العاص،القائد العسكري الشهير، والسياسي المحنك، والذي عركته الحروب يقول: إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها.

-وأما معاوية، فتقييمه للموقف العسكري بأنه لا يستطيع أحد أن ينتصر، ويحقق حسماً عسكرياً إلا بعد خسائر فادحة للطرفين، ولا يستطيع معاوية حتى لو كان هو المنتصر أن يتحمل تركة الحرب من أرامل وأيتام، وقتل خير المسلمين، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبرى اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية للأمة الإسلامية، ولذلك اختار معاوية شخصيتين كبيرتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أصحاب النفوذ في المجتمع الإسلامي، ولهما حضور واحترام عند الحسن، وهما من قريش، فالشخصيتان اللتان أرسلهما معاوية رضي الله عنه تدل على حرصه على نجاح الصلح مع الحسن بأي ثمن ممكن.

وقد ظل زمام الموقف بيد الحسن بن علي رضي الله عنه ويد أنصاره، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكن عرف ضعف جانب الحسن، وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد، أو ينزل على شروطه ومطالبه.

كان الحسن بن علي رضي الله عنه ذا خلق يجنح إلى السلم، وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل وبواعث، وتغلب على العوائق، وكتب شروطه، وترتب على صلحه نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن على مر العصور وتوالي الأزمان، فكان في صلحه مـع معاوية وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقران، وكأبي بكر في حربه للمرتدين، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي على جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح بين بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/16.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022