(الصّابئة في بلاد الرافدين)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 13
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1443 ه/ يونيو 2022م
اختلف العلماء اختلافاً كبيراً حول الصّابئة، وتاريخهم وطقوسهم، وعقيدتهم، واكتشفوا أنّهم فِرق متعددة ومذاهب متشعبة يُخالف بعضها بعضاً في الأصول(1)، والفروع، ولم تسلم من التغيّر والتبدّل على مرّ الزمان، وأشار القرآن الكريم إلى الصابئين في ثلاثة مواضع، فذكرهم مرة بعد اليهود والنصارى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ]البقرة:62،[، وذكرهم وسطاً بين اليهود والنصارى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ]المائدة:69[، وذكرهم في موطن آخر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ]الحج:17[.
لقد ربط أهل الأخبار بين الصابئة المذكورين في القرآن الكريم وبين صابئة حرّان وصابئة العراق، وجعلوهم طائفتين: صابئة حنفاء، وهو في نظرهم أصحاب إبراهيم - عليه السّلام - ممن كان على دعوته وصابئة مشركين، وهم من فسدوا من الصابئة واعتقدوا بالكواكب(2)، وإلى إيمان الصابئة المذكورين في القرآن الكريم ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (3)من القدماء، ومحمد عزّة دروزة (4)من المحدَثْين .(5)
وتُعدُّ دراسة عقيدة الصابئة مهمّة بالنسبة إلى بحثنا من عدة نواحٍ: فهي مهمة من جهة المكان؛ لأنّها قديمة العلاقة بكل مكان تعلقت به سيرة الخليل - عليه السّلام - من جنوب الفرات إلى شماله إلى بلاد السريان، إلى بلاد النبطية من الحجاز،(6) وهي مهمّة من جهة زمانها؛ لأن لغتها المقدسة تشير إلى زمان متوسط بين اللغات القديمة المهجورة واللغة السريانية الحديثة، ولم تكن لغة إبراهيم- عليه السّلام- سريانية حديثة كالتي بقيت إلى الزمن الآخر، ولم تكن إحدى اللغات المهجورة، فإن تلك اللغات المهجورة قد انقطعت صلتها بمن بعدها على خلاف لغة الخليل عليه السّلام، فإذا أشارت لغة الصابئة إلى زمن متوسط بين اللغات المهجورة واللغات السامية المتأخرة، فهي إحدى القرائن التي يُستعان بها على تعيين زمن الخليل.(7)
وكما هي مهمّة من جهة موضوعها؛ لأنّها تُرينا ملتقى التوحيد القديم والوثنية القديمة، وفيها بقايا الاصطدام بين العقيدتين، وقد يكون مدار الاختلاف بين عقيدة الخليل ومخالفيه حول هذا المعتقد، فإن بقايا التنازع بين المعتقدات ظاهر في عقيدة الصابئة، يكاد بعضها أن يكون رداً على البعض الآخر، فلا وثنية ولا إيمان بالكواكب من جهة، ولا خلاص في الوقت نفسه من الوثنية والإيمان بالكوكب على صورة من الصور، ولعلَّ عقيدة الصابئة - كما بقيت- خليط مجتمع من الجانبين بعد هجرة إبراهيم وشيعته من وطنهم القديم .(8
ومن هنا كانت عقيدة الصابئة مهمة في دراسة الأديان على العموم، ودراسة دين إبراهيم على الخصوص، وكان لها من ذلك شأن لا يناسب عددها القليل،(9) وعزلتها التي فرضتها على نفسها، وفرضتها عليها أحداث الأيام .(10)
مراجع الحلقة الثالثة عشر:
(1)إبراهيم عليه السلام في أسفار اليهود "عرض ونقد"، فاطمة بنت خالد ردمان، ص67.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، (1/701).
(3) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، (2/62-63).
(4) عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة، محمد عزّة دروزة، ص. ص696، 719.
(5) إبراهيم عليه السلام ودعوته في القرآن الكريم، أحمد البراء الأميري، ص42.
(6) المرجع نفسه، ص42.
(7) إبراهيم عليه السلام ودعوته في القرآن الكريم، أحمد البراء الأميري، ص43.
(8 المرجع نفسه، ص43.
(9) إبراهيم أبو الأنبياء، عباس محمود العقاد، ص139.
(10) المرجع نفسه، ص.ص 147، 148.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي