(إصلاح النفوس وتزكيتها من أهم أهداف الرسل)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 28
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1443 ه/ يونيو 2022م
جاء الرّسل - عليهم السلام- لإصلاح النفوس وتزكيتها وتطهيرها وتحذيرها من المعصية، فهم بعثوا لدلالة الخلق على الطريق المستقيم وإرشادهم إلى المنهج القويم وتوجيههم نحو الأخلاق الحميدة، وتنفيرهم من المساوئ الذَميمة، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ]الجمعة:2[.
وقد أوضح ابن تيمية حاجة العباد إلى بعثة المرسلين في مواضع شتّى من كتبه، فمن ذلك قوله: "والرسالة ضرورية للعباد، ولابدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي إصلاح للعالم إذا عُدم الروح والحياة والنور والدّنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة وهو من الأموات"، وقد قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} ]الأنعام:122[، فهذا وصف المؤمن، كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نوراً يمشي به في الناس وأما الكافر فميّت القلب في الظلمات .(1)
وإنَّ الرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه؛ وحركة يدفع بها ما يضرّه، والشرع هو النور الذين يبيّن ما ينفعه ويضرّه، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضّار والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والتصديق، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرّضا بمواقع القدر به والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرّب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به وطاعته في كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضّار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأكثر فضلاً عليهم أن أرسل إليهم رُسله، وأنزل عليهم كتبه وبيّن لهم الصّراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أسوء حالاً منها، فمن قَبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردّها وخرج عنها فهو من شرّ البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم.(2)
وإنّ حاجة الناس إلى الرّسل لا تماثلها حاجة واضطرارهم إلى بعثتهم لا تفوقها ضرورة، فهم في أشد حاجة وأعظم ضرورة،(3) وهذا ما وضّحه ابن تيمية بقوله: وليست حاجة أهل الأرض إلى الرّسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر وكحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كل ما يُقدّر ويخطر بالبال، فالرّسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده.(4)
فاضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار وحاجتهم إلى المُبشرين والمنذرين لا تماثلها حاجة .(5)
وقال ابن قيّم الجوزيّة: فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرّسل ولا سبيل إلى معرفة الطّيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا يُنال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطّيب من الأعمال والأموال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميّز أهل الهدى من أهل الضّلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووُضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرّسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسّ بهذا إلا قلب حيُّ "وما لجرح بميّت إيلام".(6)
والرّسل هم قادة للبشر يسيرون بهم عن طريق الخير، ويهدونهم إلى سبيل الرشاد، ويُجنّبونهم سُبل الغواية والضّلال، وهم قدوة للناس في أخلاقهم وعبادتهم وطريق حياتهم، وقد أمر الله سبحانه باتباعهم والسّير على طريقهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ]الأنعام: 90[ .(7)
مراجع الحلقة الثامنة والعشرون:
(( مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (19/199-200).
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (19/100).
(3) كتاب النبوّات، ابن تيمية، (1/27).
(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (19/101).
(5) كتاب النبوّات، ابن تيمية، (1/27).
(6) زاد المعاد في هدى خير العباد، ابن قيم الجوزية، (1/69).
(7) رسالة الأنبياء من شعيب إلى عيسى، عمر أحمد عمر، (1/7).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي