الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآيتين الكريمتين: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (*) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 94

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1444ه / سبتمبر 2022م

 

نجد في إجابة إبراهيم - عليه السّلام - حنكته ومهارته في إقامة الحجج {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وهذا ليس كذباً في حقيقته، وإنما هو من باب التعريض والتورية، فليسألوهم إن كانوا يستطيعون جواباً، ويدرك القوم ما هم فيه من الخطأ، وما هم عليه من انحراف(1).

كما أن التهكم واضح في هذا الجواب الساخر، وأراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها، إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكاً، فهي جماد لا إدراك له أصلاً، وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل، فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها، أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}،ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزّهم هزّاً، وردّهم إلى شيء من التفكر والتدبر {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}(2).

وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم، وأن تتفتّح بصيرتهم لأول مرّة، فيتدبّروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سائرون، ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خمدة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود(3).

إنَّ الرسالة التي أراد إبراهيم إيصالها وصلت القوم، فأقام عليهم الحجة بالدليل المادي، بدليل أنهم تأثروا من هذا المشهد {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}، فما هي إلا أصنام مكسرة، والمتهم رجل فيه الصفات الجذابة، كالثقة بالنفس وعدم الخوف والرجولة والمنطق القوي والحجة البالغة.

لقد انقلب السحر على الساحر - سبحان الله- وهاجت الجماهير متعاطفة مع إبراهيم- عليه السّلام -، وعرفت حقيقة الظالم من المظلوم، وهذه الصحوة الإسلامية أقلقت الحاكم الطاغية وأزلامه، وفوراً بدأت وسائل الإعلام بالتوجيه لإطفاء هذا النور الذي رأوه، ليس صوت الفطرة الذي يناديهم ويحسون به وليس نور الحق الذي يهديهم ويحلمون به، إنه صوت إبراهيم - عليه السّلام - الذي يستهزئ بهم وأصنامهم، ومع قناعة الشعب وأعضاء المحكمة بأن إبراهيم - عليه السّلام - على الحق المبين إلا أن أصحاب القرار نسفوا كل هذه القناعات بقرار جائر، وصدرت الأوامر لدهاة السياسة وكهنة الباطل وسدنة الأصنام بالتخطيط والتنفيذ لقلب الحقائق وإزالة آثار الصحوة الإسلامية التي لامست شغاف قلوب الناس(4).

والخلاصة: إنَّ الرسالة التي كان يريد إبراهيم - عليه السّلام - إيصالها لقومه قد وصلت، وأصابت عمق قلوبهم، فهزتهم كلمته الصادقة في الأعماق وأظهرت حقيقتهم، ومفادها: إن كانت هذه الأصنام تنطق فاسألوها، وإن كانت لا تنطق فكيف تعبدونها وتجعلونها آلهة؟ إذن إبراهيم - عليه السّلام - هو رجل الحجة من الدرجة الأولى، ولجأ إلى هذا الأسلوب ليقتنع قومه ببطلان عبادة الأصنام، وقد نجح في ذلك(5).

 

مراجع الحلقة الرابعة والتسعون:

(1) قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص308.

(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2387).

(3) المرجع نفسه، (4/2387).

(4) أنبياء الله، عبد الحميد كشك، ص22.

(5) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص191.

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022