تأملات في الآيتين الكريمتين: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (*) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 91
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
عندما عاد القوم من عيدهم وشاهدوا ما حلَّ بأصنامهم أصابهم الذهول والفزع وجمدت عيونهم على حطام أصنامهم، ثم ما لبثوا أن أفاقوا من ذهولهم وتساءلوا عن الفاعل و{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إنكار منهم وتوعد شديد للذي حطم هذه الأصنام ووصفوه بأنه لمن الظالمين، ولاحظ هنا كلمة بآلهتنا وتكرارها في كلامهم مع إبراهيم أثناء المحاكمة، تدلُّ بوضوح على التحجر الفكري عندهم وإصرارهم على عبادة الأصنام المحطمة والمكسّرة، وتدلُّ على شدة انتمائهم للباطل وحرصهم على حكايته ولو ثبت بطلانه.
وينبغي على قوم إبراهيم أن يسألوا أنفسهم أو يسألوا ذلك الصَّنم الكبير الذي يعبدونه وبقي سالماً دون تحطيم: إن كانت هذه الآلهة، فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئاً، وهذا كبيرها كيف لم يدافع عنها؟ إنَّ الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، وكذلك التقليد قد عطّل أفكارهم عن التأمل والتدبّر.
وعلى الفور قفزت إلى أذهانهم صورة إبراهيم - عليه السّلام - وهو يحدثهم ويدعوهم إلى الله وله مواقف جريئة ضد الأصنام؛ فهو الذي أعلن براءته وعدوانه أكثر من مرة، وهو الذي أقسم على الكيد لها بعد انصرافهم عنها، وشهد عليه أناس سمعوه قالوا: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، ولهذا ترجح لديهم أن الفاعل هو إبراهيم من خلال عدة قرائن أخرى، نذكر منها:
-أنه الوحيد الذي له مصلحة في تحطيم الأصنام.
-وهو الوحيد الذي يجرؤ على هذا العمل الخطير.
-وهو الوحيد الذي اعتذر عن الخروج يوم العيد.
-وهو الذي يذكرها دوماً بسوء (1).
ونلاحظ في قوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أن قوم إبراهيم - عليه السّلام - أرادوا تنقيص إبراهيم - عليه السّلام -، والحطّ من شأنه، وكل كلمة في هذه العبارة توحي بذلك.
إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - معروفٌ عندهم، وهو ملء السمع والبصر، وكم سمعوا كلامه وعرفوا قصته ودعوته حتى وصلت للملك، أما بعد ما حطم الأصنام، فهو {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (2).
إنَّ إطلاق لفظ {فَتًى} على النبي إبراهيم - عليه السّلام - يحمل معنى الاستهانة به والتجاهل لمنزلته، رغم شهرته بينهم ليجترئ عليه من يسمع وصفه المذكور، وصياغة الوصف بأسلوب التنكير مبالغة في تصغيره وتهوين شأنه، ووصف {فَتًى} بجملة أخرى تزيد في تحقيره وتنكيره {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، فهم لا يعرفون عنه سوى أنه فتى مجهول منكر يُدعى أو يُسمى إبراهيم، ومجيء الفعل مبنياً للمجهول زاد من التنكير له والتهوين من شأنه، فعلى المحاور الناجح أن يحذر الاستهانة بمحاوره ولو بطريقة غير مباشرة، إذ أنّها خلق رديء وأسلوب فعّال في خسارة الآخر، وطريق سريع إلى قلب القناعات الجديدة والتحولات الإيجابية التي قد تكون بدأت تتخلق في وعيه إلى أضدادها (3).
مراجع الحلقة الواحدة والتسعون:
(1) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص86.
(2) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/351).
(3) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص103.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي