الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

تأملات في الآية الكريمة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 98

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م

أيّ: كوني ذات بردٍ وسلامٍ، أي ابردي برد غير ضارّ، فالنار من خلق الله تعالى، مسخّرة لقدرته، ومنقادة لأمره ومشيتئه، وإرادته جلَّ وعلا تامة، نافذة في جميع المخلوقات.

وانقادت النار لأمره جلّ وعلا ومشيئته، فلم تحرق إبراهيم - عليه السّلام -، مع أنّها بقيت على ما كانت عليه ناراً، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ]العنكبوت:24[(1).

وانظر إلى التعبير الإلهي، إنه سبحانه لم يقل: يا نار كوني برداً على إبراهيم، ولو كان هذا هو التعبير؛ لأذاه البرد، ولكنه سبحانه - وهو أحكم الحاكمين- أضاف إلى البرد السلام، فكان برداً غير ضارّ، بل سلاماً ممتعاً، وما من شكٍّ في أن الله سبحانه لا يتخلّى عن عباده المخلصين في هذه اللحظات الحاسمة، وهو سبحانه الذي يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ]الطلاق:2-3[، أي: يجعل له مخرجاً من كل ضيق، ومن كل أزمة، ومن كل كرب، ومن كل غمٍّ، ويسّر له وسائل الرزق بحيث يأتيه من حيث لا ينتظره02).

وعندما أُلقي إبراهيم - عليه السّلام - في النار نزع بقدرته من النار طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت وهو على كل شيء قدير، والنار خلق من خلق الله تعالى لا تعصي أمره، وقد أمرها سبحانه أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، فكانت كما أراد جلاله، وسلِم خليل الرحمن من نارهم(3).

هذا وكان من الممكن أن يختفي إبراهيم - عليه السّلام - عن قومه في أي مكان ولا يظهر، وبهذا ينجو من نارهم، كما كان من الممكن أيضاً أن ينزل المطر من السماء يومها فتنطفئ النار ويسلم إبراهيم منها، ولكن لم يحدث هذا، ولم يحدث ذاك؛ وذلك لأنه لو اختفى إبراهيم - عليه السّلام - لقال قومه الكفار: لو أننا قبضنا على إبراهيم لأحرقناه في النار ولدمّرته آلهتنا. ولأنه لو انطفأت النار لقالوا: لو أن السماء لم تمطر؛ لأنّتقمت آلهتنا من إبراهيم بحرقه، ولكنّ الله سبحانه شاء أن تبقى النار متأججة، وأن يؤخذ إبراهيم عياناً أمام الناس، ويُرمى به في النار المشتعلة، فلا يحترق، إذ عطل الله القوي العزيز قانون إحراق النار، فظهرت المعجزة الإلهية في حفظ الله تعالى لعبده ورسوله إبراهيم- عليه السّلام -، وشهد القوم بطلان معتقداتهم، وبقيت آلهتهم التي أرادوا نصرتها والانتقام لها عاجزة عن أن تمس إبراهيم - عليه السّلام - بسوء، وهو الذي حطمها وأهانها وكادها وأذلها، وأراد القوم أن يكيدوا به فخسروا مرادهم(4).

وفي {كُونِي} هذه الكلمة التي تكون بها أكوان وتنشأ بها عوالم وتخلق بها نواميس: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فلا نسأل كيف لم تحرق النار إبراهيم - عليه السّلام -، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحيّة؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة، هو نفسه الذي قال لها كوني برداً وسلاماً، وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها، كيفما كان هذا المدلول مألوفاً للبشر أو غير مألوف.

إنَّ الذين يقيسون أعمال الله سبحانه وتعالى إلى أعمال البشر، هم ذاتهم الذين يسألون كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين واختلاف الأداتين لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً علمياً أو غير علمي، فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلاً، ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر، وكل منهج في تصوره مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة لله عزّ وجل، هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود.

وما علينا فقط، هو أن نؤمن بأن هذا قد كان؛ لأن صانعه يملك أن يكون، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام، وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار، فذلك ما سكت عنه النص القرآني؛ لأنه لا سيبل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود، وليس لنا سوى النص القرآني من دليل(5).

وفي قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، جاء هذا الأمر من الحق الأعلى سبحانه ليخرق بالمعجزة نواميس الكون السائدة، ولا يخرق الناموس إلا خالق الناموس، فلا يعطل قانون الأشياء إلا خالقها؛ لأن الأشياء لم تخلق لتكون لها القدرة على قيّومية نفسها، بل مخلوقة لتؤدي مهمة، والذي خلقها للمهمة هو القادر أن يسلبها خواصها؛ فالحقُّ سبحانه خلق النار وخلق فيها خاصية الإحراق، وهو وحده القادر على سلْب هذه الخاصية منها، فتكون ناراً بلا إحراق، فليس للنار قيّومية بذاتها، ونلحظ أن الله سبحانه وتعالى قيّد برداً وسلاماً؛ لأن البرد المطلق يؤذي(6).

 

مراجع الحلقة الثامنة والتسعون:

(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/370).

(2) قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص106.

(3) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص153.

(4) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص153.

(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2388).

(6) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9586).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022