الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 100

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م

هاجر إبراهيم - عليه السّلام - من موطن قومه في العراق إلى دار هجرته فلسطين الأرض المقدسة التي بارك الله فيها للعالمين وأقام فيها، قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}(1).

وتكون البركة الربانيّة في فلسطين كاملة شاملة لكل مجالات البركة وألوانها، أنّها بركة إيمانيّة واقتصاديّة وسياسيّة وعلميّة وحضاريّة وجهاديّة، ويقرر القرآن الكريم أن هذه البركة الربانية الشاملة في فلسطين {لِلْعَالَمِينَ}، وفي هذا ردّ على أباطيل وإسرائيليات اليهود الذين يجعلون بركة الربّ في فلسطين خاصة بهم ومقصورة عليهم، أنّها بركة للعالمين جميعاً، ففلسطين المسلمة المباركة تقدم بركتها ودروسها ودلالاتها وحقائقها وأنوارها واشعاعاتها للعالمين كلهم(2).

وقد أقام إبراهيم - عليه السّلام - في فلسطين الأرض المقدسة المباركة؛ لأنّها دار هجرته، تماماً كما فعل محمد - عليه السّلام - عندما هاجر للمدينة المنورة استقر في دار هجرته، ومنها انطلقت رحلاته إلى الأماكن المجاورة، ثم كان يعود إلى دار هجرته ومقر إقامته.

وعندما أقام إبراهيم - عليه السّلام - في فلسطين المباركة، كان يغادر المنطقة إلى الأماكن المجاورة في عدة رحلات سجلها القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وكانت الرحلة الأولى لمصر والباقي للحجاز، أكثر من أربع رحلات، وكان معه زوجه هاجر وابنه إسماعيل - عليهما السّلام - في رحلة الحجاز الأولى، أما باقي الرحلات فكان لوحده يذهب لزيارة ابنه إسماعيل - عليه السّلام -(3).

ونوجز أهم الأحداث البارزة التي وقعت لإبراهيم - عليه السّلام - بعد الهجرة، فيما يأتي:

• رحلته مع زوجته سارة إلى مصر.

• رحلته مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى الحجاز.

• رؤياه وهو يذبح ابنه إسماعيل.

• ضيوفه في دار هجرته وتلقيه البشرى بإسحاق ويعقوب.

• بناؤه الكعبة المشرفة بالتعاون مع ابنه إسماعيل.

• أذانه بالحج استجابة لأمر الله.

ولأهمية هذه الأحداث، سندرسها في مباحث قادمة بإذن الله تعالى، وقد ورد حديث رحلته مع زوجه سارة إلى مصر في السنة الصحيحة، وقد وقع حدث ضيوف إبراهيم - عليه السّلام - في دار هجرته في فلسطين في بلاد الشام التي أقام بها بعد هجرته وهي الأرض المباركة(4).

وقد ذكرت هجرة إبراهيم - عليه السّلام - في مواضع في القرآن الكريم:

- الموضع الأول: في قول الله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ]مريم:47[، فاعتزلهم في العبادة واعتزلهم كذلك في المكان.

- الموضع الثاني: في قول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} ]الصافات:99[.

- الموضع الثالث في سورة العنكبوت: { فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ]العنكبوت:26[، وفي قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} ]الأنبياء:71[.

واختلف أهل العلم في البلد التي هاجر إليها نبي الله عليه السّلام على قولين؛ القول الأول: إنه هاجر إلى مكة المكرمة التي شرفها الله، والقول الثاني: إنه هاجر إلى الشام، وهو لا شكّ دخل الشام ودخل مكة المكرمة(5).

واستقر في فلسطين وبلاد الشام، وهذا ما رجحته وهو ما ذهب إليه جمهور المفسرين أن المراد بالأرض التي بارك الله فيها للعالمين هي أرض الشام؛ وذلك لأنَّ الله بارك فيها لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولأنَّ الله بعث أكثر الأنبياء منها(6).

يقول ابن كثير في معنى الآية الكريمة: يقول الله تعالى مخبراً عن إبراهيم - عليه السّلام - أنه سلمه من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها(7).

وفي قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}: أي نجينا إبراهيم من النار، ولوطاً من الدمار، والجار والمجرور متعلقان بــــــ {وَنَجَّيْنَاهُ}، أي حفظناهما إلى أن وصلا إلى الأرض المباركة(?.

وكان إبراهيم - عليه السّلام - أول مُهاجر في سبيل الله، ومعه لوط ابن أخيه وزوجه سارة، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين واجب من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفارّ بدينه من إقامة دينه، وهذا النوع من الهجرة وجوبه باقٍ بلا خلاف بين العلماء في ذلك(9).

وفي السنة النبوية الشريفة عدد من الأحاديث في فضل بلاد الشام حتى عقد الإمام المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" فصلاً خاصاً جعل عنوانه: "الترغيب في سكنى الشام، وما جاء في فضلها" ذكر فيها ثمانية عشر حديثاً منها: طوبى للشام، إنَّ ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه(10)، وفلسطين هي أفضل أرض في بلاد الشام؛ لأن فيها أولى القبلتين؛ المسجد الأقصى ومسرى رسول الله(11).

وإن أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم - عليه السّلام - وابن أخيه كانت مهبط الوحي فترة طويلة ومبعث الرسل من نسل إبراهيم، وفيها الأرض المقدسة وثاني الحرمين، وفيها بركة الخصب والرزق إلى جانب بركة الوحي والنبوّة جيلاً بعد جيل(12).

لقد كانت الهجرة باب النجاة ووسيلتها، ولو لم يهاجر إبراهيم - عليه السّلام - لما أمن مكر قومه، ولما أمن مكر الشيطان الذي يسعى إلى تدجين الإنسان بكل الوسائل، وإنَّ البقاء مع القوم الكافرين والركون إلى فئة الظالمين لا يؤمن معه من الوقوع في النار، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ]هود:113[.

إذن، كانت الهجرة منطلقاً فعلياً واقعياً وحقيقياً للنجاة والخلاص من كيد الظالمين، وتلك كانت أولى فتوحاتها وأولى رحماتها، ولذلك فإن حياة إبراهيم - عليه السّلام - والتي أراد قومه أن تؤول إلى الاضمحلال والفناء، وسوف تؤول وتصبح حياة بناء وعطاء منذ لحظة الهجرة بالذات؛ لأنّها نجاة من القوم الظالمين وتخليص النفس من آفات معاشرة الكافرين، وسوف تكون كذلك نقطة التأسيس وبداية مشروع البناء لكل الإنجازات الإبراهيمية الكبرى بعد ذلك.

ومن الفتوحات في هذه الهجرة توريث إبراهيم - عليه السّلام - وآله من بعده الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، كما أن إبراهيم - عليه السّلام - بهجرته كان يتجه نحو القبلة الأولى التي رضيها الله سبحانه للأمة الإبراهيمية الأولى، أبناء إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم صلوات الله وسلامه.

إنَّ ظهور القبلة الأولى حدث كبير من أحداث التاريخ، وهو ليس بالهين ولا البسيط إلا لأولئك الذين لا يرون شيئاً من التدبير الإلهي لتاريخ العالم ولمسيرة الإنسان بالذات فوق الأرض، وأما المؤمنون فيعلمون أن مثل هذا الحدث الجليل يمثل إحدى علامات التاريخ الفارقة والفاصلة، وأنه نقطة مهمة من نقاط فهم حقيقة مسيرة الإنسان، وخفايا حراك الأمم فوق الأرض(13).

مراجع الحلقة المائة:

( ) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص107.

(2) المرجع نفسه، ص108.

(3) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص108.

(4) المرجع نفسه، ص108.

(5) فبهداهم اقتده "قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء"، عثمان محمد الخميس، ص133.

(6) تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبي، (11/202).

(7) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (3/226).

(? زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (9/4893).

(9) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، (4/590-591).

(10) سنن الترمذي، رقم (3954).

(1 ) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/372).

(12) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2388).

(13) درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ص251.

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022