الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 97

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م

 

لما دمغ إبراهيم - عليه السّلام - القوم بالحجّة القاهرة وفضح باطلهم وعرّى أصنامهم أمام الجماهير وعجزوا عن مواجهته بالحجة والدليل، ثارت عصبيتهم وهاجت حميتهم وشعروا بالخطر يداهمهم، فلم يجدوا حلاً يوقف هذا المحاور العظيم الرزين الداعي للتوحيد وإفراد العبادة لله عزّ وجل إلا منطق الحديد والنار، ومسلك القوة الغاشمة والعذاب الغليظ، فهذا أسلوبهم وأسلوب كل الطغاة أمام الحق المبين والمنطق السديد والحجج الظاهرة، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ]الأنبياء:68[.

ويُظهر السياق تشاورهم حول هذا الأسلوب الفظيع في التقتيل أو التحريق، كما صرّح به النصّ في سورة العنكبوت: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ]العنكبوت:24[، فلم يكن قول فرد واحد منهم، وإنما هو رأي تداولته الألسن واختبرته العقول(1).

إنَّ انتقام القوم الوثنيين من خليل الرحمن سيدنا إبراهيم - عليه السّلام - جاء ذكره في ثلاث سور في كتاب الله العزيز وهي: العنكبوت والأنبياء والصافات، وتلكم الآيات الواردة في ذلك:

- أولاً: في سورة العنكبوت، قال الله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ]العنكبوت:24[.

- ثانياً: في سورة الأنبياء، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} ]الأنبياء:68-70[.

- ثالثاً: في سورة الصافات، قال تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} ]الصافات:97-98[.

وعند التأمل في هذه الآيات الكريمات نجدها تكمل بعضها بعضاً، إذ كل آية منها تذكر لنا جانباً جديداً في موضوع الانتقام ونتيجته، فالآية الأولى في سورة العنكبوت {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، جاء في معناها فما كان ردّ قوم إبراهيم - عليه السّلام - حين دعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة الأصنام وحاجّهم قبل تحطيمها وبعده إلا أن قالوا: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، والقائل هو بعضهم لبعض، أو كبراؤهم المجرمون أو واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعاً في حكم القائلين(2).

وقالوا: {اقْتُلُوهُ} أي: اقتلوا إبراهيم لتستريحوا منه، ثم كأنهم أحسّوا في أنفسهم الخبيثة أن القتل لا يكفي في الانتقام منه، ولا يشفي صدورهم الحاقدة، فقالوا: {أَوْ حَرِّقُوهُ}، أي: أحرقوا إبراهيم بالنار؛ لأنّها أشنع ما يعاقَب به وأفظع.

وقد استخدم التعبير القرآني في الفعل {اقْتُلُوهُ}، ولم يقل: "قتّلوه"، بينما استعمل في الإحراق {حَرِّقُوهُ}، ولم يقل: "أحرقوه"، وذلك - والله أعلم- ليصوّر شدة حقدهم على إبراهيم، وشدة حرصهم على المبالغة في تعذيبه، إذ أنّ تكرار العين في "فعّل" دليل على تكرير الحدث، وكأن القوم الوثنيين رأوا أن القتل سيُخلّص على إبراهيم بسرعة، ويزهق روحه مرّة واحدة، وأما الإحراق فإنه سيعذبه تعذيباً ويشوي جسده شيّاً، وإنّ اضطرام النيران في جسده قد يشفي بعض حقدهم المستعر، وقد ينفّس عن غضبهم المكتوم على إبراهيم- عليه السّلام -، لهذا اقترحوا في الآية الأولى مع القتل الإحراق {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، ثم اختاروا الإحراق وحده، وأفصحوا عن سبب اختياره وذلك في الآية الثانية من سورة الأنبياء: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}(3).

إذن اختاروا الإحراق، وهو أهول المعاقبات لإبراهيم - عليه السّلام - لا للانتقام منه فحسب؛ بل لأن فيه نصراً مؤزراً لآلهتهم المزعومة التي قد أذلها وأهانها عليه السّلام، وهم يقولون لبعضهم: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: إن كنتم ناصرين لآلهتكم، وإلا تحرقوه فقد فرطتم في نُصرتها، وبعد هذا الاختبار الجائر نرى القوم الحاقدين كأنهم لم يُرضهم أن يحرقوا إبراهيم - عليه السّلام - بنار تلتهم جسده فحسب، بل أملى عليهم طغيانهم أن يجعلوها جحيماً مستمراً، وذلك مبالغة في الانتصار وإمعاناً في الانتقام.

وهذا ما أشارت إليه الآية الثالثة، وهي في سورة الصافات في قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}، والجحيم والعياذ بالله - هي كل نار بعضها فوق بعض - وهكذا قرروا أن يصلوه جحيماً حامية، تعادل لظى الحقد المتأجج في صدورهم.

وهكذا ترى أخي القارئ الكريم أنّ القوم الظالمين اقترحوا في آية سورة العنكبوت القتل أو الإحراق انتقاماً من إبراهيم - عليه السّلام -، وفي آية سورة الأنبياء اختاروا الإحراق بالنار انتصاراً لآلهتهم، وفي آية الصافات جعلوا النار جحيماً، ومن هولها لم يستطيعوا الاقتراب منها، ومن عُلوّ بنيانها اضطروا إلى قذف إبراهيم فيها عن بعد، فكل آية تصور جانباً وتضيف مزيداً، فما أعظم هذا القرآن إنه كما قال عنه الله عزّ وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ]هود:1[(4).

لقد أصدر الطغاة حكمهم على إبراهيم - عليه السّلام - بالإعدام حرقاً وشرعوا في تنفيذ الحكم، وجمعوا الحطب وأوقدوا النار الهائلة، وأتوا به، ثم ألقوه في النار بمشاركة الجماهير الغاضبة في الانتقام، ولم يتزعزع إبراهيم - عليه السّلام - ولم يهتزّ، بل بقى رابط الجأش، ثابت القلب، ولم تؤثر فيه ألسنة النيران المتصاعدة في جوّ السماء ولا صرخات الرعاع والعوام من حوله، وكان - عليه السّلام - يردّد بقلبه ولسانه: حسبي الله ونعم الوكيل.

وقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قالها إبراهيم - عليه السّلام - حين أُلقيَ في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ]آل عمران:173[(5).

وأُلقي إبراهيم - عليه السّلام - في النار وهو يردد هذه الكلمة، وجاء الفرج من الله تعالى مباشرة، قال ابن كثير: وذكر بعض السلف أنّه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأمّا من الله فلي، ويروى عن ابن عباس، قال: فكان أمر الله أسرع من أمره(6).

ليس غريباً أن تسعى ملائكة السماء لنصرة إبراهيم - عليه السّلام - فقد سعت دوابّ الأرض لمساعدته، ففي الحديث الشريف، عن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: إنَّ إبراهيم حين أُلقى في النار، لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزع، كان ينفخ على إبراهيم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله(7). وأمر الله جلّ وعلا النار بأمره الكوني والقدري أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم(8).

 

مراجع الحلقة السابعة والتسعون:

(1)صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص104.

(2) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص148.

(3) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص149.

(4) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص151.

(5) صحيح البخاري، رقم (4563).

(6) مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، ط7، 1402ه، 1981م، (2/84).

(7) مسند أحمد، (6/83).

(8) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/370).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

http://alsallabi.com/uploads/books/16228097650.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022