(خطاب الشيخ الإبراهيمي إلى علماء عصره)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 223
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقران، مؤدِّين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمة؟ فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين ولكنها غثاء كغثاء السيل.
واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلما نشط الضلال، وأن يسارع إلى نصرة الحق كلما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمدَّ وتبلغ أشُدَّها، وقبل أن يتعوَّدها الناس، فترسخ جذورها في النفوس ويعسر اقتلاعها.
وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهداً ولا يكون مع الخوالف والقعدة، وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين بل ليفرِّق اجتماعهم عليها.
وواجبه أن يطهِّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكَّام والأغنياء، وتملقهم طمعاً فيما في أيديهم، فإن العفَّة هي رأس مال العالم، فإذا خسرها فقد خسر كل شيء وخلفها الطمع فأرداه.
إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى اداب خصوصية، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخَّطوا على الزمان وعلى الناس، ويتوكؤون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمان، فإنها لا تصدق في كل زمان وهي: إن العلم يؤتى ولا يأتي. وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، وأما في زمننا وما قبله بقرون، فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبح باباً من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحاً، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد
وأكتب عليه تقصيره فيه: إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدَّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك، فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها من عقولهم ما دام القسيسيون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطاً بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح، ففي هذا الزمان يجب على عليَّ وعليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتجنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين حتي يأتينا الناس، فإنهم لا يأتوننا، وقد انصرفوا عنا وليسوا براجعين، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوَّة المغيرة على الأوطان الإسلامية؛ فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوَّة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود لأنها خفيَّة المسارب، غرَّارة الظواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضيف، فلا تلبث أن تطرد ربّ الدار.
فقد علماء الدين مركزهم يوم أضاعوا الفضائل التي هي سلاح العالم الديني، وأمهاتها الشجاعة والقناعة والعفة والصبر. وإن تجرُّدهم من هذه الفضائل ليرجع في مبدأ أمره إلى خدعة من أمراء السوء المتسلطين، حينما أثقلت عليهم وطأة العلماء وقيامهم بالواجب الديني في الأمر والنهي، وعلموا أن العامة تبع للعلماء، وأن سلطان العلماء أقوى من سلطانهم، وأن كلمة مؤثرة من عالم مخلص تقع في مستقر التصديق من العامة قد تأتي على السلطان الحاكم المتسلط ؛ فسوَّلت لهم أنفسهم أن يحدّوا من هذا التأثير الواسع القوي، فأخذوا يروِّضون علماء الدين على المهانة، وألصقوا ما بهم من الحاجة إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا، ليجعلوا من ذلك مقادة يقودونهم بها إلى ما يهون، ثمَّ ربَّوهم على الطمع والتطلُّع إلى الاستزادة ومدِّ الأعين إلى زهرة الحياة الدنيا، فزلّوا ثم ضلّوا ثم ذلّوا، وتعاقبت الأجيال وتقلبت الأحوال فإذا العالم الديني تابع لا متبوع، ومقود بشهواته لا قائد، يراد على العظائم فيأتيها طائعاً يتحيَّل على دين الله إرضاءً للمخلوق، ويحلِّل ما حرَّم الله من دماء وأموال وأعراض وأبشار،يشتري بذلك جاهاً زائلاً وحالاً حائلاً ودراهم معدودة.
ومن الكيد الكبار الذي رمى به الأمراء المستبدون هؤلاء العلماء الضعفاء في العصور الأخيرة أنهم يعفونهم من الجندية التي هي حلبة الرجال، وأن في قبول العلماء لهذا الإعفاء وسعيهم له لشهادة يسجِّلونها على أنفسهم بفقد الرجولة، وقد استطابوا هذا الإعفاء وأصبحوا يعدّونه تشريفاً لهم وتنويهاً بمكانتهم ومعجزة خصّوا بها، ودليلاً تقيمه الحكومات الإسلامية على احترامها للعلماء.. فهل يعلمون أن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الملوك الصالحين، ما كانوا ليعفوا عالماً من بعوث الجهاد والفتح؟ وما كان مسلم فضلاً عن عالم ليطلب الإعفاء أو يتسبب له أو يرضى به لو عرض عليه، بل كانوا يتسابقون إلى ميادين الجهاد، والعالم الديني ـ دائماً ـ في المقدمة لا في الساقة، ولقد كانوا يعدون الاعتذار عن الخروج من سمات المنافقين.
أيها العلماء:
هذا قليل من مساوينا، فلا تظنُّوا أني متجنّ أو متزيِّد، كونوا منصفين للدين من أنفسكم، إني أحاكمكم إلى ضمائركم حين تستيقظ فيها معاني الإرث النبوي والاستخلاف المحمدي، أليس من الحق أن هذه المساوأئ وأمثالها معها مجتمعة فينا؟
ألسنا نأمر الناس بالجهاد ثم نكون من الخوالف؟ ونأمرهم ببذل المال في سبيل البر ثم نقبض أيدينا؟ كأن الجهاد بالنفس والمال ـ وهو ثمن الجنة ـ لم يُكتب علينا؟
إنني ـ يا قوم ـ أعتقد أن أقسى عقوبة عاقبنا بها الله على خذلنا لدينه؛ هي أنه جرَّد كلامنا من القبول والتأثير، فأصبح كلامنا في أسماع الجيل القديم مستثقلاً وفي أسماع الجيل الجديد مسترذلاً، ومن ظن خلاف ذلك فهو غر أو مغرور أو هما معاً.
أصبحنا في أمتنا غرباء تزدرينا العيون، وتتقاذفنا الظنون، لأننا أصبحنا كالدراهم الزيوف، فيها من الدراهم استدارتها ونقوشها وليس فيها جوهرها ومعدنها.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: