مؤسسة الولاة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
الحلقة الخامسة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
ثامناً: ولاية البصرة:
أرسل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عثمان بن حنيف الأنصاري أميراً على البصرة ، بدلاً من عبد الله بن عامر واليها السابق الذي تركها واتجه إلى مكة المكرمة ، وقد كان عثمان بن حنيف الأنصاري صاحب خبرة في المنطقة؛ إذ سبق أن عينه عمر على مسح (السواد) وتقدير الخراج فيه، وقد سار عثمان بن حنيف إلى البصرة ودخلها بسلام ، إلا أن أهل البصرة انقسموا ثلاث فرق ، فرقة بايعت ودخلت في الجماعة ، وفرقة اعتزلت وقالت: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنعه ، وفرقة رفضت الدخول في البيعة.
ولم يلبث عثمان بن حنيف طويلاً في الولاية ، فقد قدم إلى البصرة جيش طلحة والزبير وعائشة قبل معركة الجمل ، ومعهم ممن خرج للمطالبة بدم عثمان ، وتطورت وحدث قتال ، وخرج عثمان بن حنيف إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلقيه في طريقه إلى البصرة قبيل وقعة الجمل ، وبذلك انتهت ولاية عثمان بن حنيف.
وقد وصل علي بن أبي طالب إلى البصرة ومكث فيها بعضاً من الوقت ، حدثت في أثنائه وقعة الجمل - التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى - وعندما أراد علي بن أبي طالب الخروج من البصرة ولَّى عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، وقد ولَّى علي مع عبد الله ابن عباس زياد بن أبيه على الخراج ، وأمر ابن عباس أن يستشيره ويأخذ برأيه نظراً لما وجد علي عنده من خبرة في العمل وفطانة في السياسة.
وقدم علي بعض النصائح لابن عباس منها قوله: أوصيك بتقوى الله عز وجل ، والعدل على من ولاك الله أمره ، اتسع للناس بوجهك وعلمك وحِلْمك وإياك والإحن، فإنها تميت القلب والحق ، واعلم أن ما قربك من الله بعَّدك من النار ، وما قربك من النار بعَّدك من الله ، واذكر الله كثيراً ولا تكن من الغافلين.
وقد بدأ ابن عباس يمارس عمله في ولايته ، وهو صحابي عرف بعلمه الواسع في الفقه والتفسير ، وقد أثبت مهارة إدارية بتوطيد الأمن في سجستان وهي تابعة لولاية البصرة ، وفي إقليم فارس حيث عين زياد بن أبي سفيان والياً عليه ، كما أنابه حين خرج من البصرة ، فتمكن من ضبط الأمن فيها. ويعتبر عبد الله بن عباس من أهم رجالات أمير المؤمنين علي ، وكان يرافقه في الأحداث الخطيرة، وينصح له ، ويجادل عنه ، وكان أمير المؤمنين علي يعتمد عليه ويستشيره.
وقد استمرت ولاية ابن عباس على البصرة حتى سنة 39 هـ ، وكان يعاونه صاحب الشرطة وصاحب الخراج ، وقد استمر ابن عباس في بعض الروايات على البصرة حتى مقتل علي ، قال الطبري في حوادث سنة 40 هـ: وفيها خرج عبد الله ابن عباس من البصرة ، ولحق بمكة ، في قول عامة أهل السيرة ، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل بالبصرة عاملاً عليها من قبل أمير المؤمنين علي عليه السلام حتى قتل ، وبعد مقتل علي صالح الحسن معاوية ، ثم خرج إلى مكة.
إن شخصية ابن عباس كانت شخصية قيادية؛ جمعت صفات القائد الرباني ، من العلم والفطنة والذكاء والصبر والحزم، وغيرها من الصفات ، إلا أنه اشتهر بالفقه والعلم بسبب دعاء رسول الله ﷺ له بالفقه في الدين والعلم بالتأويل ، وأخذه عن كبار الصحابة ، وقوة اجتهاده وقدرته على الاستنباط ، واهتمامه بالتفسير ، ومنهجه المتميز في تعليم أصحابه ، وحرصه على نشر العلم ، ورحلاته وأسفاره ، وتأخر وفاته وقرب منزلته من عمر رضي الله عنه، فقد حظي بعناية خاصة من الفاروق عندما لمس فيه مخايل النجابة والذكاء والفطنة ، فكان يدنيه من مجلسه ، ويقربه إليه ، ويشاوره ، ويأخذ برأيه فيما أشكل من الايات ، وابن عباس ما زال شاباً غلاماً ، فكان لذلك الأثر البالغ في دفعه وحثه على التحصيل والتقدم ، بل والإكثار في باب التفسير وغيره من أبواب العلم.
فعن عامر الشعبي ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال لي أبي: يا بني إني أرى أمير المؤمنين يقرِّبك ، ويخلو بك ، ويستشيرك ، مع أناس من أصحاب رسول الله ﷺ ، فاحفظ عني ثلاثاً: اتق الله ولا تفشين له سراً ، ولا يجربن عليك كذبة، ولا تغتابن عنده أحداً.
وكان عمر يدخله مع أكابر الصحابة ، وما ذلك إلا لأنه وجد فيه قوة الفهم وجودة الفكر ، ودقة الاستنباط ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان عمر يسألني مع أصحاب محمد ﷺ ، فكان يقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا ، فإذا تكلمت قال: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وكان ابن عباس لشدة أدبه ، إذا جلس في مجلس فيه من هو أسن منه لا يتحدث إلا إذا أذن له ، فكان عمر يلمس ذلك منه فيحثه ، ويحرضه على الحديث تنشيطاً لنفسه ، وتشجيعاً له في العلم.
وكان لعمر رضي الله عنه مجلس يسمع فيه الشباب ويعلمهم ، وكان ابن عباس من المقدمين عند عمر؛ فعن عبد الرحمن بـن زيد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبحة ، وفرغ ، دخل مربداً له، فأرسل الى فتيان قد قرأوا القرآن منهم ابن عباس ، قال: فيأتون فيقرؤون القران ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرفنا ، قال: فمروا بهذه الآية: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ و ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 206 - 207] ، فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جانبه: اقتتل الرجلان ، فسمع عمر ما قال ، فقال: وأي شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين ، قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال: فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ها هنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم ، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل ، وأخذته العزة بالإثم قال هذا: وأنا أشتري نفسي ، فاقتتل الرجلان ، فقال عمر: لله تلادك يا بن عباس.
وكان عمر رضي الله عنه يسأل ابن عباس عن الشيء من القران ثم يقول: غص غواص. بل كان عمر إذا جاءته الأقضية المعضلة يقول لابن عباس: يا بن عباس! قد طرأت علينا أقضية عضل ، وأنت لها ، ولأمثالها ، ثم يأخذ برأيه ، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت العضل.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً ، ولا ألبَّ لباً ، ولا أكثر علماً ، ولا أوسع حلماً من ابن عباس ، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ، ثم يقول: عندك؛ قد جاءتك معضلة ، ثم لا يجاوز قوله ، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار. وكان عمر يصفه بقوله: ذاكم فتى الكهول ، إن له لساناً سؤولاً ، وقلباً عقولاً. يقول طلحة بن عبيد الله: ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم على ابن عباس أحداً.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما كثير الملازمة لعمر ، حريصاً على سؤاله والأخذ عنه ، ولذا كان رضي الله عنه من أكثر الصحابة نقلاً ورواية لتفسير عمر وعلمه - رضي الله عنه - ، وقد أشار بعض أهل العلم إلى أن عامة علم ابن عباس أخذه عن عمر رضي الله عن الجميع.
لقد كان اهتمام عمر به مساعداً له على المضي قدماً في طريق العلم عامة والتفسير خاصة، ولذلك تشرفت المدرسة المكية في عهد التابعين بحبر الأمة وترجمان القران ابن عباس رضي الله عنهما.
وكان ابن عباس في عهد عثمان من المقربين الى الخليفة ، وقد كلفه بالحج بالناس في العام الذي قتل فيه.
هذا وقد عمل بعض المتأثرين بمدرسة الاستشراق بتشويه صورة حبر الأمة ، ونسبوا إليه أباطيل وأكاذيب ألصقوها بسيرته ، علماً بأن مدرسة الاستشراق فيما يتعلق بالعهد الراشدي وتاريخ صدر الإسلام امتداد لمؤرخي الرفض والشيعة الغلاة الذين اختلقوا الروايات والأخبار ولطخوا بها سيرة الصحابة الكرام ، فجاء مؤرخو الاستشراق وأحيوا تلك الأخبار الكاذبة ، والروايات الموضوعة ، وصاغوها بأسلوب حديث ويرفعون شعار الموضوعية والبحث العلمي وكل هذا كذب وزور، وقد تأثَّر به الكثير من الباحثين والأدباء والمؤرخين ولذلك تجد في كتب التاريخ والأدب المعاصر البعيدة عن منهج أهل السنة والموغلة في مناهج المستشرقين ، تشويهاً عجيباً للصحابة ، فمثلاً: زعمت تلك الكتب بأن عبد الله بن عباس رضي الله عنه نهب أموال المسلمين بالبصرة ، وغدر بابن عمه علي رضي الله عنه ، وهرب بالأموال المسروقة إلى مكة ، وتطلع للانضمام إلى معاوية بعد أن كان مع علي ، ذكر ذلك دون حياء صاحب كتاب الفتنة الكبرى (علي وبنوه) ، الدكتور طه حسين ، والعبارات التي وردت على لسان طه حسين في كتابه (علي وبنوه):
1- قال: وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا ، ومن المكانة في بني هاشم خاصة وفي قريش عامة ، وفي نفوس المسلمين جميعاً ، ما كان خليقاً أن يعصمه من الانحراف عن ابن عمه.
2- قال: رأى ابن عباس نجم ابن عمه في أفول ، ونجم معاوية في صعود ، فأقام في البصرة يفكر في نفسه أكثر مما يفكر في ابن عمه.
3- قال: ولو نسي ابن عباس ابن عمه قليلاً ، ولكنه لم ينس نفسه قليلاً ولا كثيراً ، ولم يضعها بحيث كان يجب عليه أن يضعها منذ قليل ، أن يكون والياً لعلي على مصر من أمصار المسلمين.
وغير ذلك من الأكاذيب والترهات التي اعتمد قائلوها على الروايات الضعيفة والموضوعة. ويكفي شرفاً لابن عباس دعاء رسول الله ﷺ له: «اللهم علمه التأويل ، وفقهه في الدين».
هذا وقد بدأ ابن عباس يمارس عمله في ولايته على البصرة بعد خروج علي من البصرة إلى الكوفة ، ولحق ابن عباس بعلي قبيل صفين ، واستخلف على البصرة زياد بن أبيه.
وفي أثناء ولاية ابن عباس على البصرة قام بالعديد من الأعمال؛ أهمها: ترتيب (سجستان) بعد أن قتل واليها على يد مجموعة من الخوارج ، حيث بعث إليها ابن عباس بأمر من علي مجموعة من أجناد البصرة تمكنوا من قتل الخوارج فيها وترتيب أمورها وتأمين أهلها سنة 36 هـ، كما كان لابن عباس ولأجناد البصرة دور مع علي بن أبي طالب في معركة صفين.
كما قام ابن عباس بتنظيم شؤون بعض الأقاليم التابعة لولايته ، وعيَّن عليها الأمراء من قبله ، حيث وجه إلى فارس زياد بن أبيه ، فرتبها واستطاع أن ينظم أمورها ويؤدب أهلها بعد عصيانهم.
وفي أيامه غدر أهل اصطخر فقام بغزوهم وتأديبهم، وفي سنة 38 هـ أرسل معاوية بن أبي سفيان رجلاً إلى البصرة ليدعو له بين أهلها ، إلا أن زياد بن أبيه نائب ابن عباس على البصرة تمكن من مقاومته ومدافعته حتى قتل الرجل في إحدى دور البصرة.
وكان ابن عباس يرافق علياً في كثير من تحركاته في نواحي العراق، وإذا وقعت بعض الأشياء وابن عباس في البصرة كان علي يطلعه عليها بالكتب التي كان يرسلها إليه باستمرار ، ويأخذ رأيه في كثير من القضايا عن طريق المراسلة ، كما كان ابن عباس أيضاً يكتب لعلي عن شؤون ولايته ، كما بعثه علي سنة 38 هـ على الحج نيابة عنه.
وقد استمر ابن عباس في ولاية البصرة إلى استشهاد علي ، أخذاً برأي الطبري في ذلك ، وقد وجد مجموعة من المساعدين لوالي البصرة أيام علي؛ فيهم القاضي وصاحب الشرطة، وصاحب الخراج وغيرهم ، كما كانت تتبع ولاية البصرة مجموعة من الأقاليم في بلاد فارس.
ومما سبق يتبين لنا أن علي بن أبي طالب بعد مبايعته بادر إلى عزل ابن عامر ، والي عثمان على البصرة ، وعين مكانه عثمان بن حنيف ، ولكن حملة الجمل أحدثت ارتباكاً في البصرة ، وبالتالي خرجت من سيطرة عثمان بن حنيف ، فاضطر إلى مغادرتها حتى قدم علي ، وبعد موقعة الجمل عمل علي على تنظيم أمورها. كما وقعت بعض الاضطرابات في البصرة من جراء حركة الخوارج ، وكذلك أثناء محاولة معاوية السيطرة عليها، إلا أن البصرة مع ذلك استمرت إحدى الولايات الإسلامية التابعة لخلافة علي طيلة عصره ، ولم يتمكن خصومه من السيطرة عليها.
وبرزت في البصرة قدرات ابن عباس القيادية ، وقد انتفع بصحبته لعلي رضي الله عنهما وتأثر به غاية التأثر ، وكان أمير المؤمنين علي يتعهده بالنصح والإرشاد والموعظة بين الحين والاخر ، حتى إن ابن عباس قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله ﷺ كانتفاعي بكتاب كتب به إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كتب إليّ: أما بعد؛ فإن المرء يسئه فوت ما لم يكن ليدركه ، ويسره درك ما لم يكن ليفوته ، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها ، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحاً ، وما فاتك منها فلا تأسى عليه حزناً ، وليكن همك فيما بعد الموت.
وقد كان ابن عباس من أهل القيام ، فعن ابن مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ، فكان يصلي ركعتين ، فإذا ترك ، قام شطر الليل ، ويرتل القران حرفاً حرفاً ، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب.
وقد كان رضي الله عنه غزير الدمعة حتى أثر ذلك على خديه؛ فعن أبي رجاء ، قال: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء. وكان رضي الله عنه يصوم الإثنين والخميس ، فعن سعيد بن أبي سعيد ، قال: كنت عند ابن عباس ، فجاء رجل ، فقال: يا بن عباس ، كيف صومك؟ قال: أصوم الإثنين والخميس ، قال: ولم؟ قال: لأن الأعمال ترفع فيهما ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم.
وكان كريماً جواداً يحفظ لأهل السبق مكانتهم ومنزلتهم ، فقد تعرض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لأزمة مالية وأثقلته الديون ، فنزل على ابن عباس ، ففرغ له بيته ، وقال: لأصنعن بك كما صنعت برسول الله ﷺ ، ثم قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفاً ، فأعطاه أربعين ألفاً ، وعشرين مملوكاً ، وكل ما في البيت.
وكان من أبلغ الناس ، وله قدرة عجيبة على تفهيم المستمعين؛ فعن الأعمش قال: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابن عباس ، وهو أمير على الموسم ، فافتتح سورة النور ، فجعل يقرأ ويفسر ، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا ، لو سمعته فارس ، والروم ، والترك لأسلمت ، وكان رضي الله عنه من أجمل الناس وأفصح الناس ، وأعلم الناس ، فعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس ، قلت: أجمل الناس ؛ فإذا نطق ، قلت: أفصح الناس ؛ فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس.
وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط.
وقد أصيب رضي الله عنه ببصره قبل وفاته وقد قال في ذلك شعراً:
إنْ يأخذِ اللهُ مِنْ عينيَّ نورَهُمْا
ففي لِسَاني وَقَلْبِي مِنْهُمَا نورُ
قَلْبي ذَكِيٌّ وَعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ
وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ
وابن عباس رضي الله نموذج رائع للعالم الرباني والقائد المحنك والأمير العادل، وهو أحد المؤثرين في الأحداث في عهده ، وهو باختصار من أفضل النماذج لورثة الأنبياء.
تاسعاً: ولاية الكوفة:
استشهد عثمان رضي الله عنه وواليه على الكوفة أبو موسى الأشعري ، وبعد مبايعة علي بالخلافة أقر أمير المؤمنين علي أبا موسى الأشعري على ولايته ، وقد أخذ له البيعة من أهلها ، وكتب له بموقف أهل الكوفة من بيعته ، من حيث تقبل الكثير للبيعة.
وعندما خرج أمير المؤمنين من المدينة للعراق كان يسأل عن أبي موسى خصوصاً ، ففي أثناء الطريق إليها لقيه رجل من أهل الكوفة ، فسأله علي عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح ، فأبو موسى صاحب ذلك ، وإن أردت القتال، فأبو موسى ليس بصاحب ذلك ، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يرد علينا قال: قد أخبرتك الخبر.
وقد تبين فيما بعد ميل أبي موسى إلى الصلح والمسالمة وعدم القتال بين المسلمين، فقد بعث علي محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر والحسن بن علي وغيرهم في وفود مختلفة لاستنفار أهل الكوفة قبل موقعة الجمل - سيأتي الحديث عنها بالتفصيل لاحقاً إن شاء الله تعالى - ، فسأل أهل الكوفة أبا موسى عن الموقف واستشاروه في الخروج. فقال: أما سبيل الاخرة فأن تقيموا ، وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا وأنتم أعلم، وقد اقتنع العديد من أهل الكوفة بعد ذلك بالخروج مع الحسن رضي الله عنه بعد محاورات متعددة وطويلة بينهم وبين الحسن ، وقيل: إنه خرج معه قرابة تسعة الاف رجل، وتميل العديد من الروايات إلى أن ولاية أبي موسى على الكوفة قد انتهت في هذه الفترة قبيل موقعة الجمل ، حيث تذكر بعض الروايات: أن الأشتر (وكان أحد قواد علي) قد طرد أبا موسى وغلمانه من قصر الكوفة وتغلب عليه، كما ذكرت بعض الروايات أن علياً كتب إلى أبي موسى بعزله ، وعين مكانه (قرضة بن كعب الأنصاري) والياً على الكوفة.
ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم الكوفة بعد موقعة الجمل ، حيث أصبحت الكوفة قاعدة الخلافة ، وبالتالي كان علي رضي الله عنه هو المسؤول مباشرة عن أحوال الكوفة وما يتبعها من ولايات ، وأصبح لها مكانة خاصة بقية عصره ، حيث كانت عاصمة الخلافة ، ومنها يدير أمير المؤمنين علي مختلف أنحاء الدولة ، وإليها تقدم الوفود ، ومنها تخرج الأجناد ، كما كان ذلك سبباً في جذب السكان إليها ، ولا شك أن هذا كان له دور كبير في تنشيط الحركة التجارية والعمرانية في الكوفة طيلة خلافة علي.
وقد كان رضي الله عنه كثير الاهتمام بالكوفة ويتفقد أهلها بنفسه ، كما يحرص على تعيين من ينوب عنـه في ولايتها في حال غيابـه ، فحينما أراد علي الخروج إلى صفيـن ولَّى على الكوفة أبا مسعود البدري، وحينما أراد التوجه لقتال الخوارج في (النهروان) ، ولّى على الكوفة (هاني بن هوذة النخعي) ، فلم يزل بالكوفة حتى استشهد علي رضي الله عنه.
ومما سبق نلاحظ أن الكوفة كانت تدار من قبل الولاة ، حتى إذا اتخذها علي رضي الله عنه مقراً للخلافة أصبح هو المسؤول عن ولايتها وأخذ ينيب عنه من يتولى شؤونها في غيابه ، وأصبحت الكوفة ذات أهمية خاصة نظراً لإقامة أمير المؤمنين فيها.
عاشراً: ولايات الشرق:
1- فارس: تذكر المصادر أن علي بن أبي طالب ولَّى على فارس سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه ، وقد استمر والياً على فارس فترة من الوقت، ثم إن أهل فارس عصوا وأخرجوا سهل بن حنيف سنة 37 هـ تقريباً ، فاتصل علي رضي الله عنه بابن عباس ، وتباحث معه في شأن فارس ، وكان ابن عباس على البصرة ، فاتفق معه بعد استشارة مجموعة من الناس على أن يبعث ابن عباس مساعده زياد بن أبي سفيان على فارس، وهنا يبدو الارتباط واضحاً بين ولاية البصرة وإقليم فارس ، وإحساس ابن عباس بمسؤوليته عن ذلك الإقليم من خلال مباشرته لولاية البصرة ، إذ اتفق ابن عباس مع علي على بعث أحد معاونيه إلى ذلك الإقليم لضبطه وترتيب أموره.
وقد توجه زياد إلى فارس يصاحبه أربعة الاف جندي ، فدوخ تلك البلاد وقضى على الفتنة فيها ، وتمكن من ضبطها، وقد اشتهر زياد بمقدرة سياسية فذة مكنته من إعادة الاستقرار إلى تلك البلاد بأقل الخسائر، يقول الطبري: لما قدم زياد فارس؛ بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومنَّاه ، وخوف قوماً وتوعدهم وضرب بعضهم ببعض ، ودلَّ بعضهم على عورة بعض ، وهربت طائفة وأقامت طائفة ، فقتل بعضهم بعضاً ، وصفت له فارس فلم يلق فيها حمياً ولا حرباً ، وفعل مثل ذلك بكرمان، ثم رجع إلى فارس فسار في كورها ومناهم ، فسكن الناس إلى ذلك فاستقامت له البلاد.
وقد قام زياد بتنظيم أمور فارس ، وبنى فيها بعض الحصون ، وقام بترتيب شؤون الخراج فيها ، كما ضبط العديد من البلدان التابعة لولايته حتى أمنت البلاد واستقامت، وقد استمر زياد والياً على فارس بقية خلافة علي رضي الله عنه.
وكان زياد أشهر ولاة علي على فارس نظراً لسياسته وتمكنه من ضبطها، وقد وجدت بعض التقسيمات الإدارية داخل إقليم فارس ، فقد ورد ذكر بعض الولاة المختصين ببلدان معينة داخل الإقليم ، فقد ذكرت اصطخر وذكر أنه كان من ولاتها المنذر بن الجارود، وجرت بينه وبين علي بعض المكاتبات، كما أن زياد بن أبي سفيان سكنها وتحصن بها بعد مقتل علي رضي الله عنه، كما ذكرت من بلدان فارس أصبهان التي تعد من أكبر كورها، وقد ذكر من ولاتها لعلي محمد بن سليم، كما كان من أشهر ولاة أصبهان لعلي (عمر بن سلمة) ، وقد قدم بأموال وطعام من أصبهان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
وقد ضربت الدراهم زمن علي في هذه المناطق الفارسية سنة 39 هـ ، ولا يزال بعض منها محفوظاً في المتحف العراقي وتحمل عبارات عربية ، إضافة إلى تاريخ ضربها.
2- خراسان: تعتبر خراسان ولاية واسعة ، وقد ارتبطت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بولاية البصرة في عهد الخلفاء الراشدين ، وفي خلافة علي رضي الله عنه ورد ذكر العديد من الحوادث التي وقعت في هذه الولاية خلال تلك الفترة، كما ورد بعض ولاتها ، وبعض الأمراء على كورها وبلدانها. فقد ورد أن أول ولاة علي على خراسان عبد الرحمن بن أبزى، كما كان من ولاة علي إلى خراسان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، وقد بعثه علي رضي الله عنه إلى خراسان ، بعد عودته من صفين سنة 37 هـ ، وكان أهل خراسان قد ارتدوا ، فحاول تأديبهم وتنظيم البلاد مرة أخرى، إلا أنه على ما يبدو لم ينجح، فبعث علي أحد قواده إلى خراسان ، حتى تمكن من مصالحة أهلها ، وضبط أمورها مرة أخرى، كما تعد سجستان أحد الأقاليم المجاورة لخراسان ، وكلا الإقليمين مرتبطان إلى حدٍّ ما بوالي البصرة، وفي الغالب فإن هناك ارتباطاً إدارياً بين الإقليمين.
وقد ورد ذكر بعض ولاة سجستان في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن جزء الطائي، وقد بعثه علي رضي الله عنه إلى سجستان بعد موقعة الجمل ، فقام ثوار من صعاليك العرب بقتله ، وعاثوا فساداً في البلد ، فكتب علي إلى ابن عباس في البصرة أن يوجه أميراً اخر إلى سجستان؛ فوجه ربعي بن كأس العنبري ، فاستطاع القضاء على ثورة الصعاليك ، وقتل زعيمهم وضبط أمور البلاد ، واستقر بها إلى أن استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكانت همدان: أحد الثغور الشرقية ، وقد امتازت أثناء ولاية عثمان بوجود والٍ مستقل فيها ، وتوفي عثمان وعليها جرير بن عبد الله البجلي ، وبعد مبايعة علي بالخلافة ووصوله إلى العراق بعث إلى جرير بن عبد الله في همذان يأمره بأخذ البيعة له بالخلافة على من قِبَلَه من الناس والقدوم إليه، وبعث بالرسالة مع رجل يعتمد عليه وقال: إني بعثت إليك بفلان ، فاسأله عن ما بدا لك ، واقرأ كتابي هذا على المسلمين، وقد قدم جرير إلى علي في الكوفة فبعثه إلى معاوية في الشام ، ثم عاد مرة أخرى وتعرض للإهانة من قبل بعض أجناد علي ، ومنهم الأشتر وغيره فلحق جرير بمعاوية في الشام ، وترك ولايته وكان ذلك قبيل موقعة صفين.
3- أذربيجان: كان الأشعت بن قيس عاملاً على أذربيجان حينما توفي عثمان بن عفان ، فلما بويع علي بن أبي طالب بالخلافة كتب إلى الأشعث بن قيس أن يبايع له ، وأن يأخذ له البيعة على ما قبله. ويبدو أن علياً رضي الله عنه استقدم الأشعث بن قيس فلحق بعلي في الكوفة ، ثم شهد معه المشاهد حيث اشترك معه في صفين، وفي قتال الخوارج، ويبدو أن علياً رضي الله عنه ولَّى على أذربيجان خلال هذه الفترة سعيد بن سارية الخزاعي ، ثم أعاد الأشعث بن قيس مرة أخرى على أذربيجان ، ويظهر أن علياً ضم إليه ولاية أرمينية ، كما صرح بذلك البلاذري، وقد كانت للأشعث بن قيس بعض الأعمال الهامة أثناء ولاية أذربيجان لعلي ومن ذلك إنزاله مجموعة من العرب من أهل العطاء أردبيل، وتمصيرها ، وبناء مسجدها بعد أن انتشر الإسلام بين أهلها.
وقد وردت بعض الأسماء لولاة علي في بعض بلدان المشرق الأخرى ، من ذلك أسماء بعض الولاة في الأهواز ، ومنهم: الخريت بن راشد ، وقد كان والياً على بعض بلاد الأهواز قبـل صفين ، فلما رجـع علي من صفين أخـذ الخريت بجمع الجنود ، ويدعو إلى خلع علي ، واستولى على بعض الأماكن ، فبلغ ذلك علياً ، فوجه إليه جيشاً تمكن من القضاء على حركتـه وقتلـه، وسيأتي الحديث عنهـا بالتفصيل بإذن الله تعالى.
ومن الأمراء لعلي في الأهواز مصقلة بن هبيرة الشيباني، وقد اشترى أسرى من بعض أجناد علي فأعتقهم ، ولم يتمكن من تسديد كامل ثمنهم ، ثم فر إلى معاوية في الشام.
وقد أورد خليفة بن خياط والياً لعلي على بلاد السند ، وذكر أنه جمع جمعاً أيام علي وتوجه إلى السند ، بعد أن اجتمع إليه الناس ، ولكنه فشل في إحدى المعارك ومن معه ، ولم يبق من جيشه إلا عصابة يسيرة.
كما ذكر من ولاة علي (يزيد بن حجية التميمي) وقد استعمله علي على الري بعد صفين ، ثم اتهمه علي رضي الله عنه بأن أخذ من الخراج فحبسه في الكوفة ، ثم فر إلى معاوية في الشام.
وأما المدائن فقد كان عليها سعد بن مسعود الثقفي ، وقد كان له دور رئيسي في مجابهة الخوارج ، ودارت بينه وبين علي وقواده العديد من المراسلات في شأنهم ، حيث حاولوا الوصول إلى المدائن، وقد اشتهر عن سعد توليته ابن أخيه - المختار بن أبي عبيد الثقفي – على المدائن في حالة غيابه ، وقد غضب علي على المختار الثقفي نتيجة تصرفه تصرفاً غير شرعي في أموال الخراج، ويعتبر سعد من قواد علي المشهورين ، ولعل قرب ولايته من الكوفة كان السبب الرئيسي في اشتراكه مع علي في الكثير من المواقع.
وقد أورد المؤرخ أبو حنيفة الدينوري بعض الأسماء لولاة علي في مناطق مختلفة.
وهكذا رأينا فيما سبق أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذل جهداً كبيراً في تنظيم الولايات ، وأنه عانى من الصعوبات والمشكلات الكثيرة في هذه الولاية، فقد خرجت العديد من الولايات من يده كاليمن والحجاز ومصر ، كما أنه لم يفرض سيطرته ابتداء على بعض الولايات كالشام وفلسطين وما جاورها ، وأما البلاد والولايات التي استمرت تحت حكمه كالعراق وفارس فقد عانى فيها من المشكلات الكثيرة؛ وعلى رأسها مشكلة الخوارج الذين ظهروا في تلك المناطق خصوصاً في السنوات الأخيرة من حكم علي ، وبالتالي فإن الاستقرار في تلك المناطق لم يكن تاماً ، كما أن أهل البلاد الأصليين في بلاد المشرق كفارس وخراسان وسجستان قاموا بالعديد من الثورات التي قتل فيها بعض ولاة علي ، ومن أبرز المشكلات التي واجهها علي ما وقع له من خلاف مع بعض الولاة ، وبالتالي تخلَّى عن ولاياتهم ، كجرير بن عبد الله في همذان ، ومفضلة بن هبيرة في الأهواز وغيرهم ، وهكذا يتضح أن علياً رضي الله عنه قضى مدة خلافته في جهاد داخلي مع جبهات داخلية منعته في كثير من الأحيان من تنظيم شؤون تلك البلاد كما أراد ، وواجهته العديد من العقبات التي بددت طاقته ، واستنفدت جهوده رضي الله عنه ، وقد شغلت هذه المشكلات اهتمام المؤرخين فركزوا عليها الأضواء ، وكان هذا على حساب رصدهم للشؤون التنظيمية والإدارية لهذه الولايات.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf