إشراقات قرآنية: سورة الإخلاص
الحلقة 184
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
صفر 1442 هــ / سبتمبر 2021
{أَحَد} أي: واحد، وهذا من حيث أصل المعنى اللُّغوي، إلا أن كلمة
{أَحَد} أبلغ وأدل على المقصود، وأكثر تمكنًا، ودلالة على نفي الشريك، وقد دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ ذات مرة، فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهَّد وهو يقول: اللهمَّ إني أسألُكَ يا الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ أن تغفر لي ذنوبي؛ إنك أنت الغفورُ الرحيمُ. فقال صلى الله عليه وسلم: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له». والحديث لا بأس بإسناده.
وأما «الفرد» فهي كلمة شائعة على ألسنة الناس، ولم يثبت في حديث صحيح أنه من أسماء الله تعالى.
فـ«الأحد» اسم من أسماء الله الحسنى، وهو اسم عظيم؛ ولذلك كان شعار المسلمين في معركة بدر: «أَحَدٌ أَحَدٌ»، وكان بلال بن رباح رضي الله عنه حين عذَّبه المشركون بمكة في الرمضاء يصرخ ويقول: «أَحَدٌ أَحَدٌ، والله لو أعلمُ كلمة هي أغيظ لكم من هذه الكلمة لقلتها».
وهذا تأسيس للعبودية في السورة؛ ففيها بيان أن الله عز وجل «واحد أحد»، ولا معبود بحق معه، فكل ما يدعيه الناس من الآلهة والمعبودات مرفوض، وهي مجرد أسماء، كما قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} [يوسف: 40]، فالمعنى الأول في الأحدية: أن الله تعالى أحد في ذاته، ليس معه إله آخر؛ فلا خالق، ولا رازق، ولا مالك، ولا رب، ولا مدبر في الكون، إلا هو جل وعلا.
والله تعالى أحد في أسمائه وصفاته، فإن الله تعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ما لا يحيط بكنهه أحد، ولا يدركه عقل، ولا يصل إليه ظن ولا وهم، كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
ورؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة كائنة كما أخبر الله عز وجل، أما ذاته عز وجل وعظمته ومجده وكبرياؤه وجلاله وجماله وكماله، فهو مما لا يحيط به خلقه، وهذا من أحديته في أسمائه وصفاته.
ومن أحديته عز وجل: استئثاره بأسماء لا يعلمها أحد ولم يطَّلع عليها مخلوق، ولهذا كان من جملة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «أسألُكَ بكل اسم هو لك؛ سمَّيتَ به نفسكَ، أو أنزلته في كتابكَ، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندكَ...» الحديث.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعةً وتسعينَ اسمًا، مئةً إلا واحدًا، مَن أحصاها دخلَ الجنةَ». فلا يعني أن الأسماء محصورة في هذا العدد، وإنما المراد: أن من أسماء الله تعالى تسعة وتسعين اسمًا موجودة في القرآن والسنة، مَن أحصاها وفهمها وعمل بها دخل الجنة.
وأحديته تعالى تفرض أن كل ما يكون من تصورات وخيالات تعرض للسامع أو القارئ عن الله تعالى، فإنما هي من إلقاءات الشياطين، أو من خيالات النفس، ولا اعتبار لها ولا قيمة، ولا يضر الإنسان أن تقع هذه الصورة والأخيلة على صفة من النقص؛ لأن «كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك»، ومما يُنسب إلى علي رضي الله عنه في هذا المعنى قوله:
العجزُ عن دَرَكِ الإدراكِ إدراكُ * والبحثُ عن سِرِّ ذاتِ السِّـرِّ إشراكُ
أي: أنه يكفي الإنسان أن يدري ويدرك أنه عاجز عن الإحاطة بربه تبارك وتعالى.
ويكفي في هذا أن يتخيل الإنسان حجمه ومكانته بالنسبة إلى الأرض، والأرض بالنسبة إلى الكون، والبحار وأعماقها، وليتدبر قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون * وَمَا لاَ تُبْصِرُون} [الحاقة: 38- 39]؛ فإذا تدبر ذلك أدرك أنه مخلوق صغير لا يكاد يذكر، وأن عقله الذي يفكر به لو وضع في كأس لوسعه، فكيف يُريد أن يحيط بعلم الله تعالى؟
ومن لوازم أحديته: وجوب توحيده في إلاهيته، فلا يُعبد إلا الله، وجميع صور العبادة القلبية والحسية البدنية الظاهرة والباطنة لا يجوز أن تصرف إلا لله، وهذا مخُّ ما جاء به الأنبياء والمرسلون، كما قال تعالى حكاية عنهم أنهم خاطبوا أقوامهم:
{لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ} [هود: 26]، وهذا معنى: «لا إله إلا الله».
وبعض الناس يظن أنه لا خلاف في توحيد الربوبية مع المشركين، والصواب: أنهم وإن أقروا في بعض الحالات نظريًّا بأن الله الخالق، إلا أنهم سرعان ما يجحدون وينكرون، وإقرارهم كان عَرَيًّا عن تحقيق مقتضى هذا التوحيد، وإلا فهو باب عظيم من أبواب التدبر والتأمل والخشوع والإخبات، وهو مدخل وأساس لما بعده.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7