إشراقات قرآنية: سورة الإخلاص
الحلقة 185
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
صفر 1443 هــ / سبتمبر 2021
* {اللَّهُ الصَّمَد}:
كُرر الاسم الظاهر {اللَّهُ} دون إعادته بالضمير {هُوَ} وكأن هذا على سبيل التلقين، كما يُلقن الطالب الذي يتعلم، فيذكر له أصل المسألة ثم يفرع عليها، فيقال- مثلًا-: الصلاة هي أقوال وأعمال، الصلاة أحد أركان الإسلام، الصلاة فيصل بين الإيمان والكفر والشرك، والصلاة صلة بين العبد وربه.
كما أن في تكرار الاسم الظاهر تأكيدًا لأهمية الخبر الآخر، المتعلِّق بالصمدية، فجاءت الآية الأولى بالخبر عن الله تعالى أنه {أَحَد} أي: واحد لا شريك له، وجاءت الآية الثانية بخبر جديد يُراد له أن يكون بنفس قوة الخبر الأول، وهو أنه تعالى {الصَّمَد}.
و{الصَّمَد}: الذي تصمد إليه الخلائق بحاجاتها وتتوجَّه إليه.
وهذا قول جماعة من السلف والخلف، وهو قول أكثر أهل اللغة، بل قيل: إنه قول أهل اللغة كلهم، قال أبو بكر بن الأنباري: «قال أهل اللغة أجمعون، لا اختلاف بينهم في ذلك: الصمد عند العرب: السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم».
وهذا الذي رجَّحه الخطَّابي وغيره، فـ{الصَّمَد}: السيد العظيم الذي يتوجَّه إليه الناس بمطالبهم وحاجاتهم وسؤالهم، أي: سؤال المسألة والدعاء والتضرع والشكوى.
وكلما تأملت هذا الاسم وجدت القلب يتزلزل منه ومن وقعه وثقله، حيث يدخل في معناه: أن الله تعالى غني غنًى مطلقًا عن الناس، ولهذا قال سبحانه:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} [فاطر: 15]، وقال سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن} [الرحمن: 29]، فهو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويصح ويمرض، ويرفع ويخفض، غني عن خلقه، ولا يحتاج إلى شيء؛ ولهذا قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، أي: هل من العقل والرشد والحكمة أن أتخذ وليًّا غير الله تعالى، هو فاطر السماوات والأرض، الخالق المالك الرب، الذي يطعم الناس ولا يُطعم؟!
وكونه سبحانه وتعالى مستغنٍ عن حاجة الأكل والشرب داخل في معنى
{الصَّمَد}؛ لأنه ليس بحاجة إلى ذلك.
وذكر الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {الصَّمَد}: «السيدُ الذي قد كمُل في سُؤْدَدِه، والشريفُ الذي قد كمُل في شرفه، والعظيمُ الذي قد عظُم في عظمته، والحليمُ الذي قد كمُل في حلمه، والغنيُّ الذي قد كمُل في غناه، والجبَّارُ الذي قد كمُل في جبروته، والعالـمُ الذي قد كمُل في علمه، والحكيمُ الذي قد كمُل في حكمته، وهو الذي قد كمُل في أنواع الشرف والسُّؤْدَد، وهو الله سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له».
ومَن فسَّر {الصَّمَد} بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، فهذا من باب تفسير الاسم ببعض معانيه، وهو منقول عن الصحابة والتابعين وبعض أهل اللغة، إلا أنه داخل في المعنى الأول.
* كما أن صمديته تعالى وغناه المطلق يتضمن أنه عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}، وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى الوالد، ويحتاج إلى الولد، ويحتاج إلى النظير والشبيه، وهذا أمر جبل تعالى عليه الناس، أما هو سبحانه فهو غني بذاته عما سواه.
كيفية مجيء وصف الله عز وجل في القرآن والسنة:
ويُلحظ في هاتين الآيتين أن الله عز وجل وصف نفسه بطريق السلب، أي: نفي صفات النقص، والأصل في تقرير الاعتقاد في القرآن والسنة أن يأتي غالبًا بالإثبات المفصَّل المطوَّل لصفات الكمال، والنفي المجمل، فيفصِّل في إثبات الأسماء والصفات لله تعالى، كما في آخر «سورة الحشر».
أما النفي فيُؤتى به على سبيل الإجمال لا التفصيل؛ لأن الأشياء المذمومة السلبية التي يُراد نفيها كثيرة لا يأتي عليها الحصر، كما أنه ليس من مقام التعظيم والأدب مع الربوبية أن يُوصف الله تعالى بسلب النقائص عنه مجردة؛ إذ نفي النقائص على التفصيل لا رفعة فيه لـمَن نُفيت عنه؛ ولذا كانت طريقة القرآن هي الإثبات المفصل المستفيض المطول، والنفي المجمل الذي جاء لمناسبة.
ومن أمثلة النفي المفصل: ما جاء هنا في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}.
ومناسبة النفي- والله أعلم- هو لكون بعض الناس قد قال بهذا القول، فاحتاج الأمر إلى نفيه، كقول اليهود: إن الله تعالى خلق الخلق فتعب فاستراح يوم السبت، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} [ق: 38].
ولما ادَّعى فريق من الناس أن لله تعالى ولدًا، كقول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ} [التوبة: 30]، وقول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ} [التوبة: 30]، وكزعم العرب أن الملائكة بنات الله، رد على هؤلاء جميعًا ونفى الولد.
والفرق بين {لَمْ يَلِدْ} و{لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: 111] هو أن قوله: {لَمْ يَلِدْ} يحتمل معنيين:
الأول: أنه لم يلد.
الثاني: أنه لم يتخذ ولدًا، ولو لم يكن على سبيل الولادة، ولكن على سبيل نسبته إليه سبحانه وتعالى، فنفى الأمرين معًا.
وقدَّم تعالى نفي الولد على الوالد، مع أن الذي يجيء أولًا هو الأب؛ لأن الولد هو المدعى لله تعالى، وليس هناك أحد ادعى أن لله تعالى والدًا، فكان المناسب أن يبدأ بنفي ما يدعيه الجاهلون من اليهود والنصارى ومشركي العرب ومَن على شاكلتهم، فقال: {لَمْ يَلِدْ} ثم أتبع ذلك بقوله: {وَلَمْ يُولَد}.
فإن قيل: إذا لم يثبت عن أحد ادِّعاء الوالد لله عز وجل، فما السر في نفيه هنا؟
فيجاب عن ذلك بأجوبة:
1- يحتمل أن يكون ذلك جوابًا لقريش حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اُنسب لنا ربك! لأنهم ربما سألوا هذا على سبيل التعنت، فقال الله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد}.
2- أنه من باب المقابلة؛ لأن النسب له عمودان: الولد والوالد، فلما نفى الولد ناسب نفي العمود الآخر وهو الوالد.
3- الإشارة إلى أنه عز وجل ليس قبله شيء، فقوله تعالى: {وَلَمْ يُولَد} يتضمن معنى: أن الله تعالى أول ليس قبله شيء، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت الأولُ، فليس قبلك شيءٌ».
4- أنه في مقام الحجة، فلما قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ} ونفى ما كانوا يدعون قال: {وَلَمْ يُولَد}. وفي هذا إقامة للحجة عليهم، ونفي وجود الولد، وكأن المعنى: أن الذي يكون له ولد يكون له والد، فلما نفى الله تعالى الولد نفى الوالد، وبيَّن ما في دعواهم الباطلة من الخطأ العظيم، والجهل الفاضح.
* {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}:
وهذا ختام لهذه السورة العظيمة، وإشادة بمعناها العظيم.
وخاتمة ما يقال في هذه السورة العظيمة أن رحاها تدور حول ثلاثة معانٍ:
1- أن الله تعالى أحد في ذاته وأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته.
2- أنه الغني السيد الكريم المتفضِّل الـمُعطي لعباده.
3- أن الله تعالى ليس له كفؤ ولا شريك ولا مثيل، ولا نِدَّ ولا نظير.
فتضمنت السورة أصل التوحيد وفصله وبدايته ونهايته، وبهذا يتبين أن هذه السورة مع «سورة الكافرون» تتضمنان لباب التوحيد والإيمان بالله تعالى، والبراءة من الشرك.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7