إشراقات قرآنية: سورة الفلق
الحلقة 187
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
صفر 1442 هــ / سبتمبر 2021
* {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}:
الاستفتاح بـ{قُلْ} سأل عنه أبيُّ بنُ كعب رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم- كما في «صحيح البخاري»- فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «قيل لي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}، فقلتُ».
وهو خطاب من الله للنبي صلى الله عليه وسلم، وللناس أن يقولوا هذا، فبلَّغه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أُنزل عليه؛ لأنه وحي لا يتصرف فيه؛ ولأنها تعويذة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عامة، فإثبات لفظ {قُلْ} واجب لا بد منه من أجل صحة المعنى.
والعَوْذ هو: الاعتصام والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة به تعالى في مواضع عديدة في القرآن بحسب المقام، كقوله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [النحل: 98]، وكقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِوَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97- 98].
فإن قيل: ما سر التفريق في الاستعاذة بين ذكر لفظ الجلالة «الله» عند استفتاح القرآن الكريم، وذكر «الرب» في غيرها من المواضع؟
فالجواب: أن «الله» هو الرب سبحانه، لكن اختيار لفظ الجلالة «الله» له أسرار ومعانٍ فيما يتعلق بافتتاح القرآن الكريم، منها:
1- أن اسم «الله» هو الاسم العظيم، وهو الاسم العلم، وهو اسم الجلالة، فالبداءة به فيما يتعلق بقراءة كلام الله تعالى هو المناسب.
2- أن الاستعاذة به أخصر وأقصر من قول: «أعوذ برب الفلق»، أو «أعوذ برب الناس»، أو «أعوذ بربي»، أو ما أشبه ذلك، وأسهل تناولًا وتداولًا في اللسان، فإن لفظ «الله» من أخف الألفاظ على اللسان مع عظمة معناه، وكل حروفه سهلة تنساق على اللسان؛ ولذا يقرأها الصبي الصغير، ويقرأها العجمي، ولا يقع فيها شيء كاللَّثْغة في راء «الرب»، ونحو ذلك، فلحاجة الصغير والكبير إليها عند القراءة كان لفظ الجلالة مما يستعاذ به عند قراءة القرآن الكريم.
3- قراءة القرآن عبادة لله عز وجل، والعبادة يتناسب معها لفظ الجلالة «الله»، أي: المألوه المعبود.
وأما الاستعاذة من ضرر المخلوقات وشرها، فالمناسبة فيها أن تكون باسم «الرب» الذي هو رب المخلوقات وخالقها، إذ معنى «الرب»: الخالق المالك المدبِّر المتصرِّف، فذكر لفظ «الربوبية» هنا أولى من ذكر لفظ «الإلهية»؛ فـ«الإلهية» تُذكر في مقام العبادة، أما «الربوبية» فتُذكر في مقام الاستعاذة من الخلق ومن شرِّهم.
والفلق هو: الصباح، وبهذا قال كثير من المفسرين.
ويشهد لهذا: قول الله عز وجل: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96].
وقول عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبح». فعلى هذا يكون المقصود أن يستعيذ برب الصبح إذا انفلق وانفتح.
وهذا معنى جيد، والأجود منه أن يقال: إن المقصود بـ«الفلق»: كل شيء مما يمكن أن ينفلق وينشق وينفتح فيظهر ما بداخله، فيدخل فيه الصباح والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، والرحم إذا انفتق عن المولود، والعدم إذا انفتق عن الموجود، فالاستعاذة على هذا المعنى أوسع من مجرد الاستعاذة برب الإصباح أو رب النهار؛ إذ هي استعاذة برب المخلوقات كلها؛ كما ذكر بعض أهل اللغة، كالزَّجَّاج وغيره أن الخلق يكاد أن يكون كله عبارة عن فلق.
وعبَّر بـ{الْفَلَق} دون لفظ «الخلق» للتنويع بين الألفاظ وتجنب تكرارها، حيث ذكر «الخلق» في الآية التي بعدها.
وكذلك في {الْفَلَق} حركة وانتقال، كخروج الأجنة من الأرحام، وخروج النبات من الأرض، وخروج الشمس من أفقها، وفي هذا من البشارة والإيذان بالفتح والفرج من عند الله عز وجل.
وهو معنًى عظيم؛ لأن الفَلْق يشمل كل مخلوق جديد يطرق ناموس هذا الكون بإذن ربه تبارك وتعالى.
فمَن نزل به خوف أو ضيق أو همٌّ أو كرب، فليتذكر «رب الفَلَق» الذي يفلق الإصباح، ويفلق الحب والنَّوَى، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وكل يوم هو في شأن، فيخلق ويرزق ويحيي ويميت.
فكلمة «الفلق» توحي بهذا المعنى العظيم الذي يحيي تفاؤلًا في القلب.
و«رب الفلق» يشفي المريض من مرضه بعدما أيس من العلاج.
و«رب الفلق» يأتي بالغنى واليسار والخير والسعة بعدما ضاقت على الإنسان أسباب الدنيا وأسباب العيش.
وهكذا على المؤمن أن يظل مستحضرًا هذا المعنى العظيم؛ لأنه من جملة ما كان يستعيذ به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه السورة استعاذة بالله وبكلماته، وكلمات الله نوعان:
1- كلمات قدرية.
2- كلمات شرعية.
والكلمات القدرية هي الكلمات التي بها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويرفع ويخفض.
والكلمات الشرعية هي الأمر والنهي، أي: ما ينزل على الرسل والأنبياء من الكتب والأوامر والنواهي والبلاغ.
والكلمات الشرعية كلها صدق وحق وعدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115]، فليس فيها إلا الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، فهي خير محض.
وأما الكلمة القدرية، فهي خير في ذاتها، والشر معها يتعلق بالمخلوقات لا بها.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7