إشراقات قرآنية: سورة الفلق
الحلقة 188
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
صفر 1442 هــ / سبتمبر 2021
* {مِن شَرِّ مَا خَلَق}:
{ﭫ} موصولة، أي: من شر الذي خلق.
والعموم في الآية ليس مقصودًا، وإنما الاستعاذة هنا من شر المخلوقات التي فيها شر؛ لأن من المخلوقات ما لا شر فيه، كالملائكة والرسل والأنبياء عليهم السلام، وكالجنة، فلا يستعيذ الإنسان منها، ولذلك لما تزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم الـجَوْنية ودخل عليها قالت: أعوذ بالله منك. فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «قد عُذْتِ بمَعَاذٍ».
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «أعوذُ بك من شرِّ كلِّ دابة أنت آخذٌ بناصيتها».
وكان صلى الله عليه وسلم يقول عن الرِّيح: «اللهمَّ إني أسألُكَ خيرَها، وخيرَ ما فيها، وخيرَ ما أُرسلت به، وأعوذُ بك من شرِّها، وشرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرسلت به».
فيدخل في الآية الاستعاذة من شر الأشرار، وكيد الفجار، وما اختلف به الليل والنهار، وشر الحيوانات، والهوام، والسباع، والجن، والإنس، والمخلوقات الضارة مما يُعلم وما لا يُعلم، بل يدخل فيها الاستعاذة من شر المستعيذ نفسه، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّم أبا بكر رضي الله عنه أن يقول: «أعوذُ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشِرْكه». وعلَّمنا أن نقول: «نعوذُ بك من شُرور أنفسنا».
وبين الآيتين الأولى والثانية تناسب في العموم، فهي استعاذة عامة من شرٍّ عام.
ونسبة الشر إلى الخلق في قوله تعالى {مِن شَرِّ مَا خَلَق} إشارة إلى أن الشر ليس في فعل ربنا تبارك وتعالى، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «والشَّرُّ ليس إليك». فالشر ليس إلى الله عز وجل، ولذا كانت أسماؤه كلها حسنى؛ ففعله ذاته ليس فيه شر، وإنما الشر في مخلوقاته.
* {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب}:
الغاسق هو: الليل، وهو قول جماهير المفسرين وأهل اللغة، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
وقيل: المقصود بغسق الليل: منتصف الليل.
ولهذا قال الفقهاء: إن وقت العشاء الآخرة يمتد إلى نصف الليل، واستدلوا بهذه الآية.
وخصه؛ لأنه يشتد ظلامه ويسوَد، وهذا وقت المكر والكيد.
وفي تكرير لفظ «الشر» إشارة إلى أن الغاسق الذي هو الليل ليس شرًّا محضًا، وإنما فيه الخير وفيه الشر، وهو وقت يمكن أن يكون سببًا للقُربى والزُّلفى إلى الله تعالى، ويمكن أن يكون سببًا في الإضرار بالعباد وبالنفس، فيستعاذ من شره وينتفع بخيره.
وقوله: {إِذَا وَقَب} يقرب أن يكون معناه: إذا دخل ظلامه وتسلَّل وغطَّى كل شيء.
وجاء في بعض الروايات: أن «الغاسق إذا وقب» هو القمر، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم أشار إلى القمر، فقال: «يا عائشةُ، استعيذى بالله من شرِّ هذا؛ فإن هذا هو الغاسقُ إذا وقب». وسند الحديث ليس به بأس.
والجمع بينهما: أن القمر علامة الليل، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
فحديث عائشة رضي الله عنها لا يعارض القول بأن الغاسق إذا وقب هو الليل، فالقمر من آياته، وهو جزء من المدلول العام لهذه الآية.
وهدوء الليل وسكينته ولباسه وسكنه هو في وقت الظلام، فإذا جاء الظلام وذهب النور نشطت شياطين الإنس والجن وأهل السوء، وأهل الريب والشر والفساد.
فهو لفئات من الأشرار فرصة للمكر والحيلة والغدر والشر، وأكثر ما تقع جرائم السرقة والسلب والنهب والقتل والمؤامرات والغدر والفواحش وغيرها في الليل، وأكثر ما يقع السكر والعُهر وتجمع أرباب الفسوق والغفلة والشهوات هو في الليل، فلذلك استعاذ من شره.
ومع ذلك فإن الليل هو محل العبادة، وأُنس الذاكرين بربهم، ووقت السكن والبحث والعلم والسَّمَر المباح، ولهذا رُوي في الحديث: «لا سَمَر إلا لمُصلٍّ أو مسافرٍ». فالمسافر في الليل يقطع طريقه بهدوء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالدُّلْجة؛ فإن الأرض تُطوى بالليل».
وقيام المصلِّى فيه مما أثنى الله تعالى عليه، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّل * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1- 2].
ويلحظ هنا التناسب الشديد بين قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} وبين الآيتين اللتين بعده، فمعناه العام- الذي هو الفتح والشق- يناسب الاستعاذة من شر ما خلق، أي: من شر كل شيء، ومعناه الخاص- الذي هو الإصباح- يناسب الاستعاذة من شر الليل الغاسق إذا وقب، فكأنه قال: أعوذ برب النهار والنور من الظلام والليل.
وفي الآيات إشارة إلى التفاؤل بغلبة الخير على الشر، فقد نُسب الفلق إلى الله عز وجل، في حين نُسب الشر إلى الخلق، والغالب هو الخالق سبحانه.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7