الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

إشراقات قرآنية: سورة المَسَد

الحلقة 178
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

محرم 1442 هــ / سبتمبر 2021

والله تعالى خاطب أنبياءه بأَلَّا يُكْرِهوا الناس على الإيمان، مع أن الدين حق من عند الله الذي خلق الخلق، ومن حقه أن يطيعوه فلا يعصوه، ومع ذلك بيَّن أن الدين لا يتحقَّق ولا يُقبل إلا أن يكون بإيمان وعن قناعة، فكيف بمَن يحاولون إكراه الناس على الباطل والشرك، كما يفعل أبو لهب؟!
وكيف بمَن يحاولون أن يمنعوا الدعوة من أن تنتشر، أو أن يتسامع الناس بها، وأن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم من حقه في القول والبلاغ؟! وكل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناسُ، قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا».
على أن عداوة أبي لهب لم تقتصر على سب النبي صلى الله عليه وسلم وإيذائه بلسانه، بل كان يحرِّض على ذلك، ويؤجِّج العداوة ويسعى في قطع الرحم، وجنَّد معه زوجته وولديه، وقد دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ولده عُتيبة؛ لأنه آذى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهمَّ سَلِّط عليه كلبًا من كلابك». فخرج إلى الشام وافترسه الأسد.. في قصة معروفة، وقد ذكر هذا حسان بن ثابت رضي الله عنه في بعض شعره:
مَن يرجعُ العامَ إلى أهلِه * فما أكيلُ السَّبْعِ بالراجعِ
أما عُتبة ومُعَتَّب فقد أسلما، وحسن إسلامهما، وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حُنين.
وفي الآية أن الإنسان لا تنفعه قرابته، ولا نسبه، وإنما ينفعه عمله الصالح، كما ذكر تعالى امرأة نوح وامرأة لوط، وابن نوح عبرة في هذا، كما قيل:
لَعَمرُكَ ما الإنسانُ إِلَّا بدينــهِ * فلا تَترُكِ التقوى اتِّكالًا على النَّسَب
فقد رَفَعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ * وقد وضعَ الشِّركُ الشَّريفَ أَبا لَهَب
وفي التصريح بكنيته معنًى لطيف، فقد كان رأسًا في أذية النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت السورة سقط السلاح الذي معه وتم تحييده، وصار إذا تكلم تهامس الناس وقالوا: هذا الذي نزل فيه ما نزل.
والذين يأتون من خارج مكة يسمعون أن الله أنزل فيه سورة تُتلى، فيصبح متَّهمًا، فإذا تكلم في حق النبي صلى الله عليه وسلم لا يُلتفت إليه، وكأن عنده ثأرًا يريد أن يدركه.
ومع شدة قرابته كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى منه الأذى، وكان يلزم الصمت ولا يتكلم؛ لما جبله عليه ربه من حُسن الخُلُق وسعة الـحِلْم، ولما في قلبه من الرغبة في إسلام الناس ودخولهم في الدين، فكان يصبر عليهم، وهو لا يعرف مصيرهم ولا يدري ما يختم لهم به، فكان الله هو الذي تولَّى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
وفيما يتعلق بالتشخيص والتسمية في الإنكار لها جانبان:
الأول: الأصل أن الأمر بالخير والنهي عن الشر يكون على سبيل العموم، دون تسمية أو تحديد، وعليه معظم ما نزل في القرآن الكريم، حتى إن أبا جهل نزلت فيه آيات كثيرة، ولم يسمه الله تعالى مع أنه فرعون هذه الأمة، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما بالُ أقوام يفعلونَ كذا وكذا». ولم يسم؛ من باب الستر عليهم وإطفاء الشر وفتح باب التوبة والرجوع لمن أراد الله هدايته.
الثاني: بعض الحالات تحتاج إلى التصريح باسم إنسان ما، لمصلحة عامة؛ كما إذا كان رأسًا في الشر، وشديد النكاية والأذى للمؤمنين، وعظيم الصد عن سبيل الله، واضح المجاهرة والاستخفاف، مع ملاحظة أن الشخص المذكور في السورة كافر، فلو أن أحدًا تكلم عن رؤوس الكفر الذين يحملون راية الحرب على الإسلام، لم يكن في ذلك من بأس، وهذا ينسجم مع الدرس الذي تلقنه «سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب}»، والمتكلم هو الله الذي علم أنه لن يؤمن هو ولا زوجه، ولكن كتب الله بعد ذلك الهداية لولديه عُتبة ومُعَتَّب أسلما بعد الفتح، وسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهما سرورًا عظيمًا، واستقبلهما وهَشَّ لهما وبَشَّ، وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم معركة حُنين، ولما هرب الناس وانفضوا كانا من الذين ثبتوا، وعني النبي صلى الله عليه وسلم بهما، وأعاد اللُّحمة الماضية، وتحولت العداوة العائلية القديمة إلى محبة ونصرة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذائهم، حتى إنه لما قال رجلٌ لدُّرة بنت أبي لهب: أنت بنت عدو الله أبي لهب. فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤذَى مسلمٌ بكافر». أي: لا يعيَّر هؤلاء بأبيهم.
وكان من حكمة الناس أن يقولوا: «أَبْقِ للصلح موضعًا». ومصداق هذا في القرآن: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} [الممتحنة: 7].
والمرء ينتقل ويتغيَّر ويتطوَّر، ولا تكاد تراقب إنسانًا إلا وجدته في العشرين غيره في الأربعين غيره في الستين، خاصة إن كان صاحب ضمير حي واطلاع واسع وفكر نير، فمن البصيرة أَلَّا يحاصَر هؤلاء بالأحكام الحاسمة، وأَلَّا يعامَلوا وكأنهم أعداء لله ورسوله أو أولياء للكافرين.
وبعض الغيورين يتسرعون في الحكم على المخالفين بالتفسيق أو التكفير، وربما صار الحكم أو التصنيف محاصرة له لا لهم؛ لأنه لا يريد أن ينسخ هذا الحكم ولا أن يغيَّره، فلو بدا منهم تعديل أو تصحيح لم يقبله؛ واعتبره تمويهًا أو خداعًا ؛ لأنه لا يريد أن يغيِّر حكمه، ولو أخذه على أنه بداية التحول أو الخطوة الأولى في التصحيح، لكان أخلق بروح الداعية الحريص.
{وَتَب} إن كان أول الآية دعاء عليه، فالمعنى أنه قد حصل وتحقَّق الذي دعا الله تعالى عليه وهو محقَّق، كما قال النَّابغة:
جزى ربُّه عني عديَّ بنَ حاتمٍ * جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
والدعاء من الله هو بمعنى الحكم، لكن فيه توبيخ وتقريع وتحقير له، والثاني خبر صريح بحال هذا الإنسان.
وفي الآية احتمال آخر أن أول الآية بيَّن أن التِّباب ليديه، وآخرها عمم التِّباب له كله.

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022