من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: سورة الكافرون
مع فضيلة الدكتور علي محمَّد الصَّلابي
حلقة 171
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
محرم 1443ه / أغسطس 2021
* {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون}:
أي: في الحال، أي: الآن، لا أعبد الشيء الذي تعبدونه، كما قال: {إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104].
* {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد}:
أي: ما دمتم على الكفر، فلستم عابدين إلهي، حتى لو تظاهرتم بشيء من ذلك، في وقت أو سنة، كما جاء في عرضكم التفاوضي، فالحقيقة أنكم لم تعبدوا الله الذي أعبد؛ لأن العبادة يشترط لها الإخلاص، وهو أول شرط من شروطها، وهم ليسوا مخلصين ولا مؤمنين ولا عابدين.
فعبادة الأصنام شر وشرك، وعبادة الله تعالى يشترط لها أن يكون العابد مؤمنًا بالله وحده، ولو عبد على أنه سيجرب، فهنا لا يكون عابدًا لله، إذ ليست عبادة لله إلا إذا كان مبناها على الإيمان والتوحيد، والخلوص من الشرك.
وتأمَّل كيف عبَّر بالفعل: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون}؛ لينفي أنه يعبد آلهتهم، حتى ولو لحظة واحدة.
لكن لما خاطبهم قال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد}، ولم يقل: «ولا أنتم تعبدون»؛ لأنه قد يقع منهم الفعل، ولكن لا يتحقق به عبادتهم لله؛ لغياب شرط الإيمان وهو الخلوص من الشرك والبراءة من الآلهة المدَّعاة.
فالشرك يقع ولو للحظة واحدة، لكن بالنسبة للإيمان بالله سبحانه فإنه لا يتحقَّق بمجرد كون الواحد عَبَدَ، حتى يبقى على ذلك ويدوم.
وربما يستغرب بعض الناس تكرار الآيات في هذه السورة على قصرها، ولا يفهم معنى التكرار، وما فيه من الأسرار اللطيفة والمعاني الشريفة.
{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد} تصريح بأنهم حتى لو ادَّعوا العبودية لله فإنهم لم يعبدوه، لكن قال بعض العلماء: إن في الآية سرًّا آخر، وهو أن المعنى: أنكم أنتم على وجه الخصوص، يا مَن عرضتم على النبي صلى الله عليه وسلم فكرة «اعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة» محكوم عليكم عند الله تعالى أنكم لن تعبدوا الله، ولن تؤمنوا، وسوف تموتون على الشرك، وهكذا كان، فإن هؤلاء الأربعة ماتوا مشركين، وكان هذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود: لستم بعابدين الله الذي أعبده، فـ{مَا} هنا تكون للعالم وغير العالم، فإذا أمن اللبس فهي موصولة، وتصلح للعالم وغيره.
والتكرار مقصود لأهمية الموضوع؛ لأنه أصل الدين، ويستحق أن يكرر الكلام فيه؛ لأنه لب اللباب، وأصل الكتاب.
ويتكرر لتكرر العرض منهم، فهم يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرتين وثلاثًا، ولم ييئسوا من العرض، فيأتي التكرار في القرآن الكريم، وكأن المعنى: مهما كررتم العرض، ونوعتم في أساليبه وطرائقه، فإن الجواب سيظل واحدًا لا يتبدل.
* {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم}:
لم يقل: «ولا أنا عابد ما تعبدون»، وفيها أسرار:
منها: أن المعنى ما تعبدونه لم أعبده قط في حياتي، فقد كان يمقت الأصنام ويكرهها، حتى قبل البعثة، وكان لا يأكل ما ذُبح على الأنصاب، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبدها في الجاهلية لقالوا له: أنت كنت تعبدها. بل كانوا يعرفون مجانبته لها وهجرها.
ومنها: الإشارة إلى عراقتهم في الكفر والشرك، فهذا الأمر مما توارثوه، فهو ليس شيئًا جديدًا طارئًا عليهم يسهل زواله، بل هو أمر قديم، فهم غارقون فيه هم وآباؤهم إلى الأذقان.
ويحتمل أن يكون التكرار لنفي المعبود ونفي العبادة ذاتها، أي: لا أعبد أصنامكم، ولا أتعبد بعباداتكم التي تفعلون، وفيه دليل على تحريم مشابهة المشركين فيما يفعلونه على سبيل التعبُّد.
أما الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، فهي عبادات توحيدية جاءت بها الرسل عليهم السلام، وبقيت من آثار الرسالة، فأخذتها قريش، ولذلك أُقرِّت في الإسلام، وصارت من أركان الحج والعمرة ومناسكهما بعد إزالة ما أضافته الجاهلية إليها من الطقوس الفاسدة، كالعُرِي في الطواف.
ولم يذكر الله سبحانه حججًا في هذه السورة كالعادة، فلم يحتج عليهم بالسماء ولا بالأرض ولا بالنبات ولا بخلق الإنسان.
ولعل السر في ذلك: أن مقام السورة ومقصدها واضح، وهو إعلان البراءة من الشرك والمشركين، ومن أوثانهم، وإعلان مفاصلتهم في المنهج والعقيدة؛ ولذلك لم تكن السورة مشوبة بمعانٍ أخرى لمحاججتهم ومجادلتهم، بل هي مخصَّصة لإعلان البراءة؛ ولهذا سُمِّيت: «سورة الإخلاص»، و«سورة البراءة»، و«سورة المنابذة».
وكما تجلَّى فيها أنه صلى الله عليه وسلم لن يعبد ما يعبدون، فكذلك تجلَّى أنهم لن يعبدوا ربه الواحد الذي يعبده، فإن قلنا: المقصود فئة خاصة، فلأنهم يموتون على الكفر، وإن قلنا: المقصود أعم، فإن المعنى: ما دمتم كافرين؛ لأنه وصفهم الآن أنهم كافرون.
* {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد}:
إخبار بأنهم لا يعبدونَ اللهَ إخبارًا ثانيًا، تنبيهًا على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدونه، وتقويةً لدلالة هذين الإخبارين على نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر عنهم بذلك، فمات أولئك كلهم على الكفر، وكانت هذه السورة من دلائل النبوة.
ويجوز أن تكون جملة {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد} تأكيدًا لفظيًّا لنظيرتها السابقة بتمامها، والمقصود من التأكيد: تحقيق تكذيبهم في عرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم.
* {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}:
وهذا أسلوب حصر، فحين أقول: لك الكتاب، فمعناه: أنه يخصك وحدك.
وفرق بين قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ} وبين أن يقول: «دينكم لكم»، فإذا قُدِّم المسند، ففيه إشارة إلى اختصاصهم بدينهم، وكأنه يقول: دينكم لكم وحدكم، ولا تعلق لي فيه بحال من الأحوال، وديني لي وحدي، ولا يتجاوزني ديني لكم ما دمتم على شرككم، فأنتم تختصون بدينكم، وأنا أختص بديني.
وهذا ليس إذنًا لهم بأن يكفروا، وإنما هي مفاصلة في المنهج، وبيان أن الإسلام لا يختلط بالكفر، وفيه بيان الاختلاف الأصلي بينه وبينهم، كما قال الله عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا} [الأعراف: 87]، وكما قال موسى عليه السلام: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47]، أي: اتركهم لنا، وخلِّ بيننا وبينهم، وهؤلاء جماعتنا ندعوهم إلى الله تعالى، فإن أسلموا فالحمد لله، وإن لم يسلموا فجرمهم على أنفسهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش لما حاربوه وآذوه: «يا وَيْحَ قريش، قد أكلتهم الحربُ، ماذا عليهم لو خَلَّوْا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني اللهُ تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون».
والحكم المذكور هنا حكم مستغرق لكل زمان ومكان لا يتبدل ولا يعطل.
وتأمل كيف ابتدأت السورة بالخطاب الصريح المباشر المؤكَّد: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، واختتمت بخطاب أقرب إلى اللُّطف، وهو: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}.
والخلاصة أن الله تعالى قرَّر المفاصلة مع المشركين، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، والإسلام بالكفر، والهدى بالضلال، ولم يتعرض في السورة لموضوع المعاملة.
وتحتمل الآية معنًى آخر، وهو أن المقصود بالدِّين: الجزاء والحساب، فحسابي على نفسي، وحسابكم عليكم، ولن أؤخذ يوم القيامة بجريرتكم، ولن تؤخذوا بجريرتي، فعلى هذا تكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7