من إشراقات قرآنية: سورة الكافرون
الحلقة 170
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
محرم 1443ه/ أغسطس 2021
* {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}:
افتتحت السورة بفعل أمر، وهو: {قُلْ}، والقرآن كله من عند الله، وقد أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس، لكن ثَمَّة سور افتتحت بهذه الكلمة، كـ«سورة الجن»، وهذه السورة، و«سورة الإخلاص»، والمعوِّذتين، فهذه خمس سور، وأما الآيات فكثيرة.
وما الحكمة من هذا الاستفتاح؟
1- للتأكيد على أن موضوع السورة ليس مما يخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل تحت اختياره أو اجتهاده، بل هو من محكمات العقيدة التي لا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من البشر أن يجتهد فيها، وهو مسألة الإيمان بالله تعالى ونبذ عبادة ما سواه.
وهنا نلحظ فرقًا بين هذه المسألة وبين مسائل أخرى وقع للنبي صلى الله عليه وسلم فيها اجتهاد لمصلحة المسلمين، كقصة الأحزاب حين أحاطوا بالمدينة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن العرب قد رمته عن قوس واحدة، فعَرَض صلى الله عليه وسلم على الصحابة أن يصالح غَطَفان وغيرهم، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا.
فهذه من مسائل السياسة الشرعية الاجتهادية، وليست مسألة عقيدة.
وكذا لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام صلح الحُدَيْبِيَة، وردوه، وحصلت المفاوضة بينه وبين كفار مكة قال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لا يدعوني اليومَ إلى خُطَّة يعظِّمونَ فيها حُرمةً، ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتُهُم إليها». فلما جاؤوه وعرضوا عليه الصلح بشروطهم قبل بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من قَبِيل المسائل الاجتهادية الداخلة في السياسة الشرعية.
وكثير من الناس- بسبب قلة الفقه، أو شدة الغيرة- يخلطون بين هذه وتلك، في حين نجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم العامة الفصل الواضح المبين؛ فالمسائل المحكمة الأصولية القطعية لا مجال فيها للاجتهاد والتفاوض كما في موضوع هذه السورة، أما المسائل المتعلقة بالسِّلْم والحرب والمواقف الاجتهادية، فيسوغ فيها الاجتهاد.
2- لتجديد أمر الرسالة وتأكيد مصدرها، وأن النبي مؤتمن على القرآن يبلِّغه بحروفه؛ وكأنه يقول: علموا أن الله تعالى هو الذي حسم هذا الأمر، وأمر به، فتبين بهذا أن {قُلْ} هنا ضرورية.
3- للتبليغ وعدم الكتمان، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67]، فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ القرآن، وقد بلغه ولم يكتم منه شيئًا.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة في حالة ضعف، والكفار من حوله بمكة هم أكابر في السن والمكانة، ودعوته لا زالت في مهدها، فأن ينزل القرآن ليجابههم بهذا الخطاب: {قُلْ} أي: يا محمد! لهؤلاء: {يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} فهو شيء مزلزل، وقطع لا تردُّد فيه لأي مفاوضة من هذا القبيل.
4- في ذلك إعراض عن الكافرين وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه تعالى عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبته، ويكفيه فخرًا وشرفًا أن يخاطبه ربه جل وعز خطابًا مباشرًا، وهذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه صدود عن المشركين والكافرين؛ لأن الله تعالى لم يخاطبهم، وإنما أمر نبيه أن يخاطبهم بمدلول الآية، كما وصفهم تبارك وتعالى بوصف لا مجاملة فيه ولا ملاينة فوصفهم بـ{الْكَافِرُون} وهو وصف مقرِّع شديد.
5- في هذا أن الله تعالى علِمَ في طبع النبي صلى الله عليه وسلم ما جُبل عليه من الرحمة واللِّين، والله تعالى اختاره على علمه بهذه الصفات؛ لأن الله تعالى أراد أن يجمع به الشمل المتفرِّق لهذه الأمة، والشمل المتفرِّق يجتمع على الرحمة واللِّين، وليس على الغلظة والشدة.
فلقَّنه هنا البراءة الصريحة من الشرك والمشركين؛ للإشارة إلى أن حُسن خُلُقه صلى الله عليه وسلم مكرمة نبيلة في حقه، وشرف عظيم، وسبب لنجاح الدعوة وقبولها لدى الخاص والعام، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4]، لكن حسن الخلق لا يتنافى مع المفاصلة مع الكفار والبراءة من شركهم.
ولما كان موسى عليه السلام مجبولًا على الشدة والقوة في طبعه، كما في قصته مع الرجل الذي وَكَزَهُ فقضى عليه، كان أول ما أوصاه الله تعالى أن قال له: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43- 44].
فربنا سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون من أهل النار، ولكن الحجة لا تقوم إلا بالقول اللَّيِّن؛ ولذا أمر به وأوجبه.
وكثير من الناس يخلط بين البراءة من الشرك وأهله، وبين حسن المعاملة والملاينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة بين أظهر المشركين، ويحسن معاملتهم ويخالقهم بخلق حسن، ولما هاجر إلى المدينة كان فيها اليهود والمنافقون والمشركون، وكانت أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء أخلاقًا حسنة يحسن معاملتهم ويعدل معهم.
وبعضهم يظن أن البراءة من الشرك تلزمه أَلَّا يصافح المشرك، وليس لديه دليل قطعي على ذلك، بل العلماء مجمعون على أن الكافر ليس بنجس العين، وإنما نجاسة الكافر معنوية، لا ينجس المسلم بملامسته.
كما أن البراءة من الشرك وأهله لا تمنع التعامل معهم بيعًا وشراءً، ولا التبسم والمصافحة وحسن الأدب، ومراعاة الأعراف العامة التي لا تنافي أحكام الإسلام وأصوله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلطَّف معهم، ويغشى مجالسهم، ويأكل من طعامهم، ويبايعهم، ويتكلم معهم، ويباسطهم.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء حَبْر إلى النبي فقال: يا محمد- أو: يا أبا القاسم- إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا المَلِكُ، أنا المَلِكُ. فضحك رسولُ الله تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له». فلم يمنعه كونه يهوديًّا أن يصدِّق بما قال، وأن يتبسم لكلامه.
وفي خيبر دعت اليهودية النبيَّ صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى الشاة، فجاؤوا وأكلوا عندها من طبخها، وكانت قد وضعت فيها السُّمَّ.
وقد يجد المسلم في قلبه حبًّا لشخص ما، لا لكفره ومعاصيه، وإنما بمقتضى الطبيعة والفطرة، كحب الابن لوالده أو الوالد لولده، وحب الزوج لزوجته، والله يقول: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فإذا تزوج كتابية فسوف يأكل معها، ويضاحكها ويداعبها، وهذا يستدعي مودة ومحبة في قلبه لها، لكنها ليست محبة لشركها وكفرها.
ومثل هذا حب الوالدين، كما قال الله سبحانه: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، والولد يحب والده فطرة؛ لأن الولد بعض من الوالد، وإبراهيم عليه السلام كان واضحًا في محبته لأبيه وحرصه عليه، كما قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]، وقال تعالى عنه: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114].
وحب مَن أحسن إليك، كما قال سبحانه عن أبي طالب: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
والحب لا يحمل المؤمن على ما لا يحل من عبادة غير الله، أو ارتكاب ما حرم الله، أو المداهنة في الدين، أو إفشاء أسرار المسلمين.
فثَمَّ فرق بين البراءة من الشرك والكفر والمعصية، والبراءة من أهلها بهذا الاعتبار، وبين مخالقتهم بخلق حسن، ومحبتهم المحبة الفطرية الطبيعية.
وأما الكفار المحاربون، فقد صرَّح القرآن بالنهي عن موالاتهم، وأن مَن تولَّاهم فأولئك هم الظالمون، ووصف متولِّيهم بأنه قد ضَلَّ عن سواء السبيل.
وقد ذكر الرازي في «تفسيره» أكثر من ثلاثة وأربعين وجهًا في سر افتتاح السورة بهذا المطلع {قُلْ}.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا} فيه ثلاثة حروف، هي حروف نداء: «يا»، وهو وحده كافٍ، والحرف الثاني: «أيُّ»، والحرف الثالث: «الهاء»، والهاء قد يكون حرف نداء، وقد يكون حرف تنبيه، فهذه الحروف الثلاثة هي لحشد الانتباه، وأتت من أجل استجماع الذهن والسمع؛ لتلقي القرار الصارم الذي لا تردُّد فيه.
وقد وصفهم الله بـ«الكافرين»، وفي موضع آخر بـ«الجاهلين»، كما في قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُون} [الزمر: 64].
وورد أن الآية نزلت في السبب نفسه الذي نزلت له «سورة الكافرون».
وبين «الجهل» و«الكفر» تلازم، وربما يكون الجهل سببًا، والكفر نتيجة، فبسبب الجهل بالله وقعوا في الكفر، والكفر أشد من الجهل.
وهنا سمَّاهم: «كافرين»، وهو الاسم الذي ينطبق عليهم ويعبِّر عن حقيقتهم، فليست من أجل التعيير، وإنما من أجل الدعوة إلى ترك ما هم عليه، ومباعدة الحالة التي هم فيها، وهم يصرحون بذلك ويقولون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُون} [سبأ: 34].
والمقصودون هنا هم الذين يعبدون الأوثان، كاللَّات والعُزَّى ومَنَاة الثالثة الأخرى، وليس المقصود كل الكافرين؛ لأن منهم مَن يعبد الله، أو يدَّعي ذلك، مثل أهل الكتاب، فأهل الكتاب يزعمون أنهم يعبدون الله، لكن عبادتهم على جهل وضلال، أو بملة منسوخة محرفة.
ويوجد من الكافرين مَن لا يعبد شيئًا أصلًا، أو لا يؤمن بوجود الله، وهؤلاء ليسوا عابدين لشيء البتة.
فالمقصود إذًا عبدة الأوثان، وقد قال أهل أسباب النزول: إن هذه السورة نزلت في الأسود بن المطَّلب، أو الوليد بن المغيرة، أو أُمَيَّة بن خلف، أو العاص بن وائل، وهؤلاء هم الأربعة الذين حاولوا مفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم، لـمَّا قالوا: تعبدُ إلهنا سنةً، ونعبدُ إلهك سنةً، وكانوا يظنون أن أمر الدين كأمور الدنيا، فهم كانوا إذا اختلفوا في أمر دنيوي يتصالحون فيما بينهم، فيتنازل هذا عن بعض حقه، وهذا عن بعض حقه، ثم يلتقون على حل وسط.
والكفر لغة: السَّتْر، ومنه تسمية الفلَّاح: كافرًا؛ لأنه يستر الحب، وفي مصر يسمون القرى الزراعية: كَفْر.
وصفهم بأنهم كافرون؛ لأنهم يسترون الحقيقة، ويجحدونها.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7