الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة الكوثر
الحلقة 168
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو القعدة 1442 هــ / أغسطس 2021

* {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}:
والشانئ: المبغض، كما قال الله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} [المائدة: 8].
والأَبْتر: المقطوع، يقال: بُتر العضو، أي: قُطع، والبتراء هي: الركعة الواحدة؛ لأنها مقطوعة عما بعدها، وهكذا هو الأَبْتر مَن لا يأتيه أولاد ذكور، أو مَن يموت أولاده الذكور.
ومن هنا جاء في بعض الروايات أن بعض المشركين في مكة- قيل: أبو جهل، وقيل: العاص بن وائل السهمي، وقيل: عُتبة بن رَبيعة، وقيل: أبو لهب- كانوا يعيِّرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فرد سبحانه بأن مبغضك وقاليك وكارهك هو الأبتر، وليس أنت كما يدَّعي.
ومن شرف مقام النبي صلى الله عليه وسلم أن تولَّى الله عز وجل الدفاع عنه بما لم يكن النبي يعلمه، ولا يملك أن يقوله، وإذا كان هؤلاء يسبُّون النبي صلى الله عليه وسلم وينتقصونه؛ فماذا يضيره إذا كان ربه تبارك وتعالى هو الذي يسليه ويدافع عنه؟ وأبدل الله الحزن والألم الذي كانوا يسعون في تسبيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن جعل هذا العطاء الجَزْلَ مسوقًا بمناسبة الكلام الذي قالوه، فجعل الله عاقبته خيرًا، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وفي وصف العدو بالشانئ دليل على أنه لم يتحقق من كيدهم إلا بغض قلوبهم له؛ لأن الله تعالى يدافع عنه، وقد قيض أبا طالب في أول البعثة يدافع عنه، وكان يقول:
والله لن يصِلوا إليك بجَمْعِهم * حتى أُوسَّدَ في التراب دفِينَا
ثم لما مات أبو طالب قيَّض له في المدينة الأنصار والمهاجرين، ثم حمى الله سبحانه دينه، ونصره وأعلاه على الأديان الأخرى.
والمبغضون حالهم كما قال ابن حزم في بعض قصائده:
قالوا: تحفَّظْ فإن الناسَ قد كثُرْتْ * أَقْـوَالُهم، وأقاويلُ الوَرَى مِحَنُ
فقلتُ: هل عيبُهم لي غيرَ أنِّيَ لا * أقولُ بالرأي؛ إذ في رأيهم فِـتَـنُ
وأنَّني مُوْلَعٌ بالنصِّ لستُ إلى * سواهُ أنحو ولا في نصرِه أَهِـنُ
دعهم يعضُّوا على صُمِّ الحَصَى كَمَدًا * مَن ماتَ مـن قوله عندي له كفنُ
أخذ هذا المعنى من قوله تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، وهنا قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، فليس له إلا مجرد البغض الذي يحمله في قلبه، ولذلك قالوا: «لله در الحسد؛ ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله».
وفي أعقاب أحداث سبتمبر قامت في الولايات المتحدة الأمريكية حملة ضارية على النبي صلى الله عليه وسلم:
فـ(جيري فالويل) له برنامج تلفزيوني، وستة ملايين أسرة تستقبل البرنامج وتتأثر به! وعنده جامعة أصولية، وله موقع على الإنترنت، يقول في قناة فوكس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه إرهابي! ورجل عنف! ودموي! وإن كانوا قد نقلوا عنه أنه اعتذر بعد ذلك.
وكذلك (بات روبرتسون) له برنامج تلفزيوني شهير اسمه: نادي السبعمئة، تكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه يدعو أصحابه إلى قتل الناس! وأنه متعصِّب! وأنه- حاشاه صلى الله عليه وسلم- كان لصًّا وقاطع طريق!
و(فرانكلين جراهم) عنده برنامج تلفزيوني، وموقع إلكتروني ضخم يبث بست لغات عالمية، وهو ممن تولَّوا كبر النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم ووصف الإسلام بأنه دين شرير، وهؤلاء من الأصوليين اليمينيين المتطرِّفين، وكانت فترة رئاسة جورج بوش الابن تشكِّل العصر الذهبي لهم.
ومهما يقولون، فإن رجالًا من بني جلدتهم كانوا أكثر حيادية وأبعد عن التعصب، وهم كثير:
منهم: (مايكل هارت)، صاحب كتاب «المئة الأوائل» الذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم في الرتبة الأولى، وجعل عيسى عليه السلام في الرتبة الثالثة، وموسى عليه السلام في الرتبة السادسة عشرة.
وقال: إن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان سياسيًّا محنكًا، وكان قائدًا عسكريًّا، وإنه ملأ قلوب المسلمين بالعدل والإنصاف.
ونجد كثيرًا من الأدباء والشعراء والفلاسفة والمؤرِّخين والمفكِّرين الذين درسوا الإسلام باعتدال وإنصاف، أشادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بلغة غريبة.
حتى إن الشاعر الفرنسي (لا مارتين) يقول: أعظم حدث في حياتي هو أنني قرأتُ سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ودرستها دراسة وافية، وأدركت ما في سيرته من عظمة وخلود.
ويقول: أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية مثل ما أدرك محمدٌ (صلى الله عليه وسلم)؟! وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ؟
لقد هزم الرسول (صلى الله عليه وسلم) المعتقدات الباطلة التي تجعل واسطة بين الخالق وبين المخلوق.
وعالم اللاهوت السويسري الدكتور (هانت كونت) يقول: محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي بمعنى الكلمة، ولا يمكننا إنكار أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هو المرشد القائد إلى طريق النجاة.
وشاعر الألمان الشهير (جوته) يقول: بحثت في التاريخ عن مثل أعلى يمثِّل الإنسانية في أرقى صورها، فوجدته النبي العربي محمدًا (صلى الله عليه وسلم).
ويقول في كلمة مؤثِّرة تأخذ باللُّب يخاطب بها أستاذه الروحي الشاعر الكبير حافظ الشيرازي: يا حافظ، إن أغانيك وقصائدك تبعث السكون في نفسي، إنني مهاجر إليك بأجناس البشرية المحطَّمة، بهم جميعًا، أرجوك أن تأخذنا في طريق الهجرة إلى المهاجر الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم).
ويقول (فارس الخوري): إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أعظم عظماء العالم، والدين الذي جاء به هو أكمل الأديان.
ويقول الأديب والروائي الروسي الشهير (تولستوي): أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي اختاره الله الواحد إله الكون ليكون آخر الأنبياء، ولتكون رسالته آخر الرسالات على وجه الأرض.
ومن العجيب أن (برناردشو) الأديب والفيلسوف الغربي المعروف يقول: قرأتُ حياة رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) جيدًا مرات، فلم أجد فيها إلا الـخُلق كما ينبغي أن يكون، وكم تمنيت أن يكون الإسلام هو سبيل العالم!
ويقول أيضًا: لقد درستُ محمدًا (صلى الله عليه وسلم) باعتباره رجلًا مدهشًا، فرأيتُه بعيدًا عن مخاصمة المسيح، بل يجب أن يُدعى: «منقذ الإنسانية»، وأوروبا مبتعدة عن عقيدة التوحيد، وربما ذهبت إلى أبعد من ذلك، وتمنيت أن تعترف أوروبا بقدرة هذه العقيدة الإسلامية على حل مشكلاتها، وبهذا الروح يجب أن تفهموا كلامي!
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا متواضعًا، بعيدًا عن الادِّعاء والتكلف والتفاخر بالدنيا، فتولَّى ربه الدفاع عنه في وجه الشانئين المغرضين، ووعده فأجزل وأنجز، وأوصاه بدوام الذكر والشكر، وبيَّن مصير خصومه، فما كان التاريخ سوى ترجمة أمينة دقيقة لهذا الوعد وذاك الوعيد!

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022