من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الكوثر
الحلقة 167
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ذو القعدة 1442 هــ / أغسطس 2021
* {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر}:
الأمر بالصلاة تفريع على العطاء، أي: نحن أعطيناك فَصَلِّ، ففي هذا أن الله تعالى أمره بالشيء الذي كان المشركون ينهونه عنه، كما قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9- 10]، ولذلك قال في تلك السورة: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 19].
والعادة أن النعم يأتي عقبها الأمر بالشكر، وهنا لم يقل: «فاشكر»؛ لأن الصلاة جامعة لكل معاني الشكر، ويقول العلماء: إن الشكر يكون بثلاثة أشياء:
بالقلب، وذلك بأن يشعر قلبك بالامتنان، وتذكر المنة التي طوق الله بها عنقك في خلقك ورزقك وسمعك وبصرك.
وباللِّسان، بأن تلهج بالشكر بلسانك، كما قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11].
وبالجوارح، وذلك بالعمل وحسن توظيف النعم.
يقول الشاعر:
أفادتْكُم النَّعماءُ مني ثلاثةً: * يدي ولساني والضميرَ المحجَّبا
والصلاة تتضمن ذلك كله، ولهذا جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى قام حتى تَفَطَّر رجلاه، فقالت عائشةُ رضي الله عنها: يا رسولَ الله، أتصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال: «يا عائشةُ، أفلا أكونُ عبدًا شكورًا».
فالصلاة شكر، بل هي رأس الشكر، وهكذا تأسَّى النبي صلى الله عليه وسلم بإخوانه من المرسلين عليهم السلام، كنوح الذي وصفه ربه بأنه كان عبدًا شكورًا، وداود الذي أمره ربه أن يعمل شكرًا.
وهنا أتى باللام؛ واللام هي سر الإخلاص؛ لأن معناها: لا تصلِّ كما يصلِّي المشركون لآلهتهم، وإنما صلِّ لربك موحِّدًا له، ولا تكن مرائيًا، كأولئك الذين يراءون ويمنعون الماعون.
وهي صيغة قصر، يعني: أن تكون صلاتك مقصورة على ربك؛ بحيث لا تصلِّي إلا لربك.
ولم يقل: «فصلِّ لنا»، أو: «فصلِّ لله»، أو: «لي»، وإنما قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}؛ إشارة للاسم المناسب لموضوع الصلاة، وهو أن الصلاة عبودية، والعبودية اللائق فيها اسم «الرب» الذي يعبده الناس.
وفيه إيماء إلى رعاية الله تعالى وحفظه؛ لأنه «ربك» الذي رباك في الماضي، وتعاهدك، وأعطاك الكوثر.
والعادة في القرآن أن الصلاة لا تكاد تُذكر إلا مقرونة بالزكاة، وهنا تذكر الصلاة مقرونة بالنحر، فلماذا عدل عن «الزكاة» واختار «النحر»؟
لعل ذلك؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك مالًا تجب فيه الزكاة، وكان إذا حصل على شيء ينفقه في الحال.
ولذا فإنك لا تقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخرج زكاة؛ لأنه لم يكن عنده مال يحول عليه الحول فيزكِّيه، وإنما كان يدخر لأهله قوت سنة، ومثل هذا لا يزكَّى؛ لأنه قوتٌ من تمر أو شَعِير أو بُر، وأما النقد فكان يتصدَّق به فورًا، حتى إنه صلَّى العصر يومًا، ثم قام مسرعًا إلى بيته، فلما رجع سأله الناسُ، فقال: «ذكرتُ شيئًا من تِبْرٍ عندنا، فكرهتُ أن يحبسني، فأمرتُ بِقسمته».
وقد أَهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مئة بدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده، وأمر عليًّا رضي الله عنه فنحر ما بقي منها.
والنَّحر نوع خاص من الذبح، وهو للإبل، حيث تُنحر قائمة معقولة يدها اليسرى، تُطْعَنُ في لَبَّتِها فتسقط، بخلاف الذبح؛ فإنه يكون للغنم والبقر.
والنحر يُطلق ويقصد به مطلق القُربان، ولذلك يُسمى يوم العيد: يوم النحر، مع أن من الناس مَن ينحر ومنهم مَن يذبح، وما يُذبح فيه من الغنم أكثر مما يُنحر من الإبل، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَانْحَر} يشمل الأمرين معًا.
ومن أهل العلم مَن احتج بهذه الآية على وجوب الأُضحية، وهو قول الحنفية؛ لأن الله تعال أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم.
وذهب كثير من الفقهاء والمفسرين- وهو مروي عن الإمام مالك- إلى أن المقصود بالصلاة: صلاة عيد الأضحى، أي: فصل صلاة العيد ثم انحر، وهذا وجه جيد، ولا يلزم قصر الآية عليه، فالآية دليل على مشروعية صلاة العيد، ومشروعية الأضاحي.
والراجح أنها لا تدل على وجوب صلاة العيد، ولا وجوب الأضحية، والوجوب يفتقر إلى دليل آخر، وغاية ما فيها الأمر بمطلق الصلاة ومطلق النحر.
كما استدلوا بهذه الآية على أن النحر يكون بعد الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أَلَّا ينحروا إلا بعد صلاة العيد، ولما جاءه أبو بُردة بن نِيَار رضي الله عنه وأخبره أنه ذبح قبل الصلاة، قال له: «شاتُك شاةُ لحم». وأمره أن يذبح بدلها أخرى.
وقد خاطب اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، مع أنه كان هو وأصحابه في مكة فقراء جياعًا خائفين، وفيه تأكيد على أنه سيعطيهم من الخير العميم ما تتغير به أحوالهم من الضيق إلى السعة ومن الفقر إلى الغنى.
وفيه تأكيد على عز الدين وأهله، فما أمره أن يصلِّي لربه وينحر، إلا وقد تعهد له ولأصحابه أنه سوف يبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، فيعبدونه، ويصلون وينحرون ولا يشركون به شيئًا.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7