النبي الداعية صلى الله عليه وسلم (3)
الحلقة الثامنة والسبعون من كتاب
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
جُمَادَى الآخِرَة 1443 هــ / يناير 2022
- المقصد الأعظم:
ليس المقصود من الدعوة أن تتحول إلى بضاعة للمعارك الكلامية والخصومات والجدل والتعاظم، وإنما المقصد الأسمى من رسالات السماء هو تحقيق التزكية للإنسان في طيب الأخلاق وكرم الخصال، والمحافظة على القيم، وبناء المجتمعات الرشيدة النظيفة، وإقامة الحضارات السامقة؛ التي لا تستهدف استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، والإطاحة بإنسانيته واستقلاليته، وإنما تهدف إلى أن يكون الناس كلهم سواسية أمام ميزان العدل والحق، وهكذا خاطب الله تعالى الناس من أول وهلة بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
فالعبرة هي بالتزكي والتطهر، والتقوى والقرب من الله، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه كما في «صحيح مسلم» وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
فمَن أخذ بهذا الكتاب وهذا الدين أعزه الله تعالى كائنًا مَن كان، ومَن تخلَّى عنه أو نكل نزلت مرتبته حتى لو كان عظيم النسب شريف المقام، فالأرض لا تقدِّس أحدًا، والنسب لا يقدس أحدًا، كما أن التاريخ لا يقدس أحدًا، إنما يقدس الإنسان عملُه.
- عتاب معلَن خالد:
شيء عجيب.. ينزل هذا العتاب على النبي صلى الله عليه وسلم.. ومع ذلك هل كتمه.. هل أخفاه.. هل همس به همسًا؟ كلا، إنما جمع الفئة المؤمنة وهم قليل مستضعفون بالأرض، وتلا عليهم قول الله عز وجل: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1] ، وكان يرحب بعبد الله بن أم مكتوم ويقول: «مَرْحَبًا بِرَجُلٍ عاتَبَنِي فِيه رَبِّي».
قرأ هذا الوحي وتلاه ليسمعه البر والفاجر، والمؤمن والكافر!!
في هذه الآيات تظهر مصداقية الرسالة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليعاتب نفسه، وإنما عاتبه ربه من فوق سبع سماوات، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليكتم مثل هذا المعنى، وإنما كان يقوله لأصحابه علانية ويلقنهم إياه، ويقرؤه عليهم في الصلاة، ويسمعه أعداؤه الذين سيستغلون مثل هذا الموقف ليعتبوا عليه صلى الله عليه وسلم.
إن هذه عظمة ما بعدها عظمة، وتفوق لا يتسنى إلا لنبي اختاره الله تعالى واصطفاه، ولو أن والدك أو مسؤولًا أو شخصًا تعظمه همس في أذنك بعتاب.. فهل تجرؤ أن تصرح بهذا العتاب للآخرين؟ فكيف عندما يكون عتابًا قويًّا شديدًا؟! فكيف بإنسان يواجه حربًا إعلامية شعواء، ومع ذلك يعلن هذا العتاب وكأنه يقدم مادة سوف يستغلها الخصوم؟!
إن مقاييس الأرض تختلف عن مقاييس السماء والوحي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو هذا القرآن ويقرؤه للناس، ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: 37] تخيل لو قيل لك هذا الكلام مباشرةً: إنك تخفي في نفسك ما الله مبديه!!
إذًا: لاعتبرت هذا تعييرًا وذمًّا ونقدًا، وربما انتفضت وغضبت، لكنه صلى الله عليه وسلم يتلقاه من ربه، ويلقيه لأصحابه، ويقرأ به في الصلاة: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ [الأحزاب: 37]. مع أن ما بعدها أشد منها: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37].ومن ذلك أيضًا: قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67-68]. كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات ويلقنها الصحابة كما يقرأ ويلقنهم قوله عز وجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57].
- من دلائل النبوة:
إن هذه الآيات الواضحة صريحة الدلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينطِق عن الهوى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4]. فالإنسان لم يكن ليوبخ نفسه أو يعاتبها فضلًا عن أن يقول ذلك على رؤوس الملأ.. فضلًا على أن معايير الدنيا كلها ومعايير العقل البشري إذا انفصلت عن الوحي لا تسعف مثل هذا ولا تزكيه ولا تؤيده، لكنها تؤكد على حقيقة معنى الخبر السماوي، وأنه وحي من عند الله عز وجل، وتؤكد على معنى عظيم آخر وهو أن المسلم المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يتدرب على قبول النقد والتوجيه حتى ولو كان علانيةً ما دام مؤيدًا بالدليل والحجة والبرهان، كما أنها تزرع التواضع لله عز وجل والانكسار لعظمته، ومعرفة أن الذين ينتقدونك أو يواجهونك سرًّا أو علانيةً- ما دامت دوافعهم نظيفة وشريفة- يُسهمون في تعميق شخصيتك وبنائها بناءً صحيحًا، وعزل جميع المؤثرات السلبية عنها، وصدق الله حيث يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
رابط تحميل كتاب مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
http://alsallabi.com/books/view/506
كما ويمكنكم تحميل جميع مؤلفات فضيلة الدكتور سلمان العودة من موقع الدكتور علي الصَّلابي الرسمي