(مالك بن أنس: الفقيه الفتى)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة:الثانية و الأربعون
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
طلب مالكٌ رحمه الله العلمَ وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهَّل للفُتيا قبل بلوغه الثامنة عشرة، وجلس للإفادة في مجلس العلم وعمره إحدى وعشرون سنة، وحدَّث عنه آنذاك جماعة وهو في مقتبل شبابه، وفي آخر خلافة أبي جعفر المنصور رحل الناس إلى مالك من الآفاق وازدحموا عليه حتى آخر عمره.
وهذا يُظهِر لنا البيئة التي تربَّى فيها شاب مثل الإمام مالك في عهود السلف الصالحين، وفي ذلك فوائد:
أولًا: مكانة طلب العلم في بيئة المدينة النبوية، فكان الشاب الصغير ينشأ وهو يرى الناس يشيرون إلى الشيخ بالبَنان، فإذا أقبل أطرقوا رؤوسهم وأَخْلَوْا له الطريق وسلَّموا عليه وعظَّموه؛ لأنه يحمل بين جنبيه هداية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم الصالحين.
قال عبد الله بن سالم الخَيَّاط في وصف الإمام مالك رحمه الله:
يَأْبَى الجوابَ فما يُراجَعُ هَيبةً *** والسائلونَ نواكِسُ الأَذْقانِ
أدبُ الوقار وعزُّ سلطانِ التُّقى *** فهو المطاعُ وليسَ ذا سُلطانِ
قال الإمام الشافعي تلميذ الإمام مالك: «.. فرأيتُ من مالك بن أنس ما رأيتُ من هيبته وإجلاله للعلم، فازددتُ لذلك، حتى ربما كنتُ أكون في مجلسه، فأريدُ أن أصفِّح الورقةَ، فأصفِّحها صفحًا رقيقًا، هيبة له؛ لئلا يسمع وقعها».
وهذا يدل على هيبة مالك، كما يدل على أدب الشافعي وذوقه.
ثانيًا: كانت الظروف والأسباب مهيَّأة للتعليم، ولم يكن ثَمَّ كثير عوائق أو صوارف تحول دونه، فطالب العلم إذا أتى إلى المسجد وجد الأبواب مفتوحة، والفرص مهيَّأة، والمجالس قائمة، وإذا ذهب إلى السوق وجد السؤال والاحتكام إلى الفقه، وإذا ذهب إلى البيت وجد تحريض الوالدين والأهل؛ فكأن المجتمع يقول بلسان الحال والمقال: تعلَّم ونحن وراءك، نشد أزرك، ونساعدك ونؤيِّدك.
وقد كان للإمام مالك رحمه الله مع أمه قصة معروفة في سيرته، يرويها مُطَرِّفُ بن عبد الله بن مُطَرف ابن أخت الإمام مالك عن مالك قال: «قلتُ لأمي: أذهبُ فأكتبُ العلمَ؟ فقالت لي: تعالَ فالبس ثيابَ العلماء ثم اذهب فاكتُب. قال: فأخذتني فألبستني ثيابًا مشمَّرَةً، ووضعت الطَّوِيلةَ على رأسي، وعمَّمتني فوقها، ثم قالت: اذهب الآنَ فاكتُب.
وقال: كانت أمي تعمِّمني وتقول لي: اذهب إلى رَبِيعة، فتعلَّم من أدبه قبل علمه».
وقال ابنُ القاسم: «أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نَقَضَ سقفَ بيته فباع خشبه، ثم مالت عليه الدنيا بعد» .
وقال ابنُ بُكير: «وُلد مالك بذي المروة، وكان أخوه النضر يبيع البَزَّ، وكان مالك مع أخيه بزَّازًا، ثم طلب العلم، فكان يقال: مالك أخو النضر، فما مضت الأيام والليالي حتى قيل: النضر أخو مالك».
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 85-87
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: