(الإمام الشافعي واضع أسس علم أصول الفقه)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: التاسعة والستون
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
كان الشافعيُّ رحمه الله إمامًا حجةً، وأقرَّ له بالعلم أهل زمانه، وأخذوا عنه، واعتبروه مرجعًا للفتوى والعلم والفقه والأصول وغيرها.
وثَمَّ أسباب دفعت الشافعي لوضع علم أصول الفقه، منها:
1- اختلاف عصر الشافعي عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وطُروء المتغيرات الإنسانية والحضارية، في عالم السياسة والمجتمع والمعرفة والاقتصاد.
2- دخول الكلمات والأساليب الغريبة إلى اللغة العربية، مما ينذر بفجوة بين الناس وبين النصوص الشرعية.
3- وجود الشافعي في عصر اشتد فيه الخلاف والجدل بين أصحاب مدرسة الحديث في المدينة النبوية، وأصحاب مدرسة الرأي في العراق، مما دفعه إلى أن يدوِّن علم أصول الفقه؛ لكي يعرف المجتهد القواعد والموازين التي يجب عليه أن يلتزمها عند التعرض لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها.
4- كثرة الحوادث والوقائع التي جدَّت نتيجة اتساع الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم من الشعوب الأخرى، ذات العادات والأعراف المختلفة، وعدم وجود أحكام لكثير من هذه الحوادث والوقائع بخصوصها في القرآن أو السنة، فكان لابد من استعمال القياس بإلحاق الصور الجديدة التي حدثت في هذه المجتمعات، بصور وضَّح القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة أحكامها، لوجود العلة الجامعة بين الأصل والفرع؛ فدعت الحاجة إلى الكلام عن القياس بوصفه مصدرًا من مصادر التشريع، للتعرف بواسطته إلى أحكام هذه الوقائع الجديدة .
وكان أعظم عمل قام به الشافعي رحمه الله وخلَّد الله تعالى به ذكره، هو كتاب «الرسالة» وهو كتاب مطبوع، وأفضل طبعاته كانت بتحقيق الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله، وهو في مجلد ضخم.
هي رسالة في أصول الفقه، دوَّن فيها القوانين التي تحكم الفقه أو الاستنباط، وهي أصول مسلَّمة بالجملة لا شبهة فيها، أو قواعد يتمكَّن بها الفقيه من الفهم والاستنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهو علم منطق العرب في مقابل منطق اليونان الذي وضعه أَرِسْطُو، فكان الشافعي رحمه الله يشير إلى أن علم أصول الفقه هو منطق العرب، وكان يعتبر العرب أحدَّ الناس عقولًا وأكثرهم ذكاء؛ ومن قواعد هذه الأصول:
* أنه ما من مسألة إِلَّا والحكم فيها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ) [الإسراء:12]، فكل مسألة فلله فيها حكم، إما تحريم أو جواز أو إباحة، هذا من حيث الجملة.
* أنه لا حكم إِلَّا بدليل، فلا يحل لأحد أن يقول في شيء بحكمٍ ما إِلَّا بدليل: إما من القرآن، أو الحديث، أو الإجماع، أو القياس.
هذه هي الأصول العامة.
ثم شرع رحمه الله يفصِّل في هذه الأصول، ويبيِّن الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، وبيَّن الصحيح من الضعيف، سواء في الحديث أو القياس، وقد قال رحمه الله بإبطال الاستحسان الذي كان يقول به الحنفية وغيرهم.
وبهذا العمل الجليل الذي عمله الشافعي قدَّم خدمةً عظيمة للتقريب بين المدارس الفقهية، فنجا بذلك أهل الحديث من الاستدلال ببعض الأحاديث الضعيفة، كما نجا أهل الرأي من الاستدلال بالقياس الفاسد أو الباطل، وبذلك وضع أصولًا لمدرسة وسطية ينتفع بها أهل الحديث كما ينتفع بها أهل الرأي، ولم يكن هذا غريبًا على إمام درس في حداثة سنه على يد الإمام مالك رحمه الله، وهو من أئمة أهل الحديث، ودرس بعد ذلك على يد محمد بن الحسن، وهو من أئمة أهل الرأي.
قال الحافظ ابن حجر: «وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، فرحل إليه ولازمه، وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حِمْل جَمَلٍ، ليس فيها شيء إِلَّا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث، فتصرَّف في ذلك حتى أصَّل الأصول، وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار».
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 138-137
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: