(الإمام الشافعي والاجتهاد)
اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثامنة و الستون
محرم 1444ه/ أغسطس 2022م
من المعروف أن الإمام الشافعي كان له مذهب في العراق، فلما ذهب إلى مصر غيَّر مذهبه، واستحدث أقوالًا جديدة، وهذا أوجد للشافعي قولين: القديم والجديد.
وأما أسباب تغيير مذهبه فأمور:
أولًا: بسبب الاجتهاد؛ فإن العالم يظل مجتهدًا إلى أن يموت، والاجتهاد من العبادة، قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، فالاجتهاد من الثوابت التي لا تتغيَّر، وإن كانت نتائج الاجتهاد من المتغيرات التي لا ثبات لها، بل هي عرضة للاختلاف.
ثانيًا: لأنه جالس العلماء المصريين، وأخذ عنهم وسمع حديثهم، وكان ممن أخذ عنهم الشافعي في مصر: تلاميذ اللَّيْث بن سعد، ووجد عندهم من حديث العلم وجديده ما أضافه إلى علمه القديم.
ثالثًا: أنه بصُر في مصر بحالات جديدة من الأوضاع العملية والعلمية والاجتماعية ولَّدت عنده نوعًا من الفهم الجديد؛ ولذلك تجد في كتبه التي كتبها بمصر ما يَنُم عن الأحوال والأمور التي كانت موجودة في مصر ولا يعلمها أهل العراق.
رابعًا: مع التجربة الجديدة، والبيئة الجديدة، زاد عقله وتم نضجه ونمت تجربته بالسن وبمخالطة الناس ورجال العلم، ولذلك قال الإمام أحمد لمحمد بن مسلم بن وارَة لما سأله: ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أهي أحبُّ إليك أو التي عندهم بمصر؟ قال: «عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يُحْكِمْها، ثم رجع إلى مصر فأَحْكَم ذاك» .
فلهذا، ولِمَا جُبِل عليه الشافعي رحمه الله من الصدق والإخلاص والنية الصالحة في طلب العلم وتعليمه، ولِمَا كان عليه من حسن الأدب والتربية، ولِمَا عنده من سَعة العلم والفهم والاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، ولِمَا أصَّله من القواعد التي احتاج إليها مَن بعده؛ ظل كتابه «الرسالة» إلى اليوم عمدة في أصول الفقه.
ولذلك كله كتب الله تعالى للإمام الشافعي القَبول عند الناس، وصار أحد الأئمة المتبوعين.
ولا يضر الإمام الشافعي رحمه الله أن يوجد في بعض مَن تبعه كسائر المذاهب نوع من التعصُّب، فإنه كان أبعد الناس عن ذلك، ولهذا قال البخاريُّ رحمه الله: «سمعتُ الحميديَّ يقول: كنا عند الشافعي، فأتاه رجلٌ فسأله عن مسألة، فقال: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال رجلٌ للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بَيْعة! تراني على وسطي زُنَّار! أقول لك: قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت».
وصح عنه قوله: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي». وهذا منقول عن غيره من الأئمة.
فالواجب على الطلبة والأَتْباع أن يستفيدوا منه وأَلَّا يتعصَّبوا له؛ فكلٌّ يُؤخذ من قوله ويُترك، إِلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 138-137
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: