الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

(تمثالٌ من صَلْصال!...)

اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة: الثالثة

صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م

صانعُ الفَخَّارِ يَلْقَى في صُنع الجَرَّةِ الصغيرة عناءً كبيرًا، ثم يبيعها لشابٍ عابثٍ ويقول له:

- ستكون مسرورًا من بضاعتي، إنه عمل تمَّ في وجداني، وسيخدم أبناءك وأحفادك!

يمضي الصانع وزملاؤه في طريقهم، فيشاهدون مجموعة من الشباب يحملون جِرَار الفَخَّار الجميلة، التي اشتروها منهم، ثم يضعونها على هاوية جبل، ويرشقونها بالحجارة، وكأنهم تراهنوا أيُّهم يكسر عددًا أكبر منها!

تكسَّرت الجِرَار وسقطت في الهاوية، والشباب يرقصون ويضحكون!

يركض صانعو الفَخَّارِ إلى الشباب بغضبٍ وهم يصرخون:

- ماذا تصنعون أيها الأشقياء؟ أنتم لا تُقدِّرون قيمة الكنز الذي في أيديكم!

- ولماذا تغضبون؟ لقد بعتم بضاعتكم وأخذتم ثمنها، ونحن أحرار فيما نفعل فيها.

- ولكن هذه الجِرَار عزيزة علينا، وقد كلَّفتنا جهدًا لتصبح هكذا، ووضعنا في طينها كثيرًا من جهدنا، وبعض أرواحنا حتى أصبحت شيئًا جميلًا مفيدًا، وها أنتم يا قليلي الإيمان تحولونها إلى شظايا وتعبثون بها!

قرأت هذه القصة الجميلة في رواية (بلدي) لرسول حمزاتوف.. وبالمناسبة يوجد في «اليوتيوب» مقطع له في نهاية عمره انبجست فيه روحه الآدمية التي تجمع الخطيئة والندم عليها، فهو في المقطع يعلن ندمه على أخطائه وزلاته بخشوع وانكسار، وفي آخر مقابلاته كان يقول: حياتي كلها كانت مسوَّدة تحتاج إلى تصحيح!

وجدت في القصة معنى رمزيًّا يشجب الاعتداء على الحياة الإنسانية من تجار الحروب وقتلة الشعوب؛ الذين يكسرون الفَخَّار بعدما نُفخت فيه الروح.. فينالون سخط الله ومقته ولعنته وعذابه.. فلا تقتلوا أنفسكم.

﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾.

الصَّلْصَال هو: الطين اليابس؛ الذي يُسمع له صوتٌ إذا ضُرب، وهو يشبه الفَخَّار الذي تُصنع منه الجِرَار.

أواني الفَخَّار تتميَّز بحفظ الماء وتبريده وإحيائه، نعم إحيائه، فبواسطتها يتسلل الهواء لأعماق الماء، ويمنحه معنى جديدًا ومذاقًا حيًّا، للماء إذًا حياة!

يروي الشَّهْرَسْتاني في قصة محاكمة سُقراط وإعدامه: أن سُقراط حكيم زاهد، وأنه لمَّا أراد المرجفون إخافته بأن المَلِك يتوعَّده بالسجن ثم الإعدام، قدَّم وصفًا حكيمًا للإنسان حين أحال تصريف أموره وخلقه لله وحده، فكان يذكر لهؤلاء المرجفين أنه كالماء في جرَّة، وأن المَلِك قد يستطيع كسر الجرَّة، ولكنه لا يستطيع كسر الماء، فيذهب الماء إلى أصله، إلى البحر!.

ولعل هذا من معاني قولنا حين المصائب: «إنا لله وإنا إليه راجعون».

جسد الآدمي وعاء أو منجم صغير مكون من (٢٣) عنصرًا موجودة في الأرض.

عبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مرحلة ما قبل الروح حين قال: «إِنِّي عَبْدُ اللهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ عليه السلام لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ».

هذا التمثال الآدمي المُنجَدِل على الأرض تشكَّل من:

- تراب

- عجن بالماء فصار طينًا

- ثم تُرِكَ ما شاء الله من الأزمنة حتى أصبح طينًا لازبًا ملتصقًا بعضه ببعض.

- ثم تُرِكَ ما شاء الله حتى أصبح حَمَأً مسنونًا منتنًا أسود، وربما بدأت تظهر عليه بعض ملامح التكوين الإنساني.

ثم تُرِكَ ما شاء الله حتى صار صَلْصَالًا كَالْفَخَّار..

قد تكون أربع مراحل، أو خمسًا، أو ثلاثًا، محل بحث وتردد، وهي تشبه مراحل الجنين في بطن أمه، وكل مرحلة أربعون يومًا، كأيام الجنين أيضًا، ولعلها من أيام الله، فيكون ثمَّ تفاعل كيميائي استغرق من السنين الطوال ما الله به أعلم حتى تتخمَّر هذه القبضة الطينية وتُشكِّل الحمض النووي، ثم الخلايا الحيَّة.

عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «لَمـَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْـجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّـا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ».

دوران إبليس حول الجسد الآدمي كان تفَحُّصًا، خرج منه بملاحظة أنه يشتمل على جوف، ويحتاج للطعام والشراب، فهو إذًا غير متماسك ولا قادر على التحكم التام في نفسه وضبطها.

وعن ابن عباس، وابن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أنهم قالوا: «تَرَكَهُ أربعينَ ليلةً أو أربعينَ سنةً...».

ويجوز أنَّ كل مرحلةٍ أربعون سنة.. وفي ذلك روايات متكاثرة؛ ذكرها الطبري، والسيوطي في «الدر المنثور»، وغيرهما.

وحمل جَمْعٌ من المفسرين صدر «سورة الإنسان» على هذا المعنى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾، لم يكن شيئًا البتة، كما قال: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾.

ثم كان شيئًا غير مذكور.

ثم ترقَّى في المراحل والفضائل والكمالات.

القرآن ليس كتابًا في العلوم الطبيعية حتى يرسم التفاصيل، ولكنه يحدِّد الأُسس والجوامع لمقاصد إيمانية وتربوية وحضارية، ويرسم طريق البحث العلمي القاصد ومنهجه.

ما أغفله القرآن فإغفاله رحمة، وما ذكره فذكره حكمة.

والحقيقة لا تزعج أحدًا، وهي قرين الوحي، الذي يزعج ويَضُرّ المعرفةُ الناقصة المغرورة، أو الوهم والجهل الذي يظنه صاحبه علمًا.

القرآن يأمر بالسير في الأرض، والبحث عن أسرار الخليقة الأولى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾.

من الاستجابة للأمر الإلهي بالسير والنظر أن يتخصَّص علماء في دراسة الإنسان ونشأته الأولى، ويكرِّسوا وقتهم وجهدهم في مقاربة الحقيقة، بعيدًا عن التسليم المتسرِّع لنظرية، أو التسليم المتسرِّع لمألوف غير مُمَحَّص.

والنظر في الهياكل والجماجم البشرية المتقادمة مدرج للمعرفة والكشف، ولا زال العلم يحبو ولم يصل بعد إلى يقين، ولا قال كلمته الأخيرة في كثير من المسائل النظرية.

خلق آدم الذي اقتص الله خبره ومراحل تكوينه في القرآن من الخبر القطعي اليقيني، وهو فوق النظريات وقبلها وبعدها: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾.

وربما كانت ثقة بعض المسلمين المعجبين بالنظريات الأحيائية أعظم من ثقة علماء الغرب؛ الذين تقتضي تقاليدهم المعرفية الهدوء والتأنِّي، وطرح الاحتمالات، وإبعاد الثقة الأيديولوجية، والتوظيف المصلحي عن العلوم ونتائجها، وهذا يجعل المرء أكثر استعدادًا للبحث والمواصلة وتقبُّل الاحتمالات والفرضيات، وعدم التسرُّع في الجزم في حالتي النفي والإثبات: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

أول ما نزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متعلِّقًا بالخَلْق، وبخَلْق الإنسان خاصّة من عَلَقٍ، وكان حثًّا على القراءة والعلم، واستخدام الملكات التي وهبها الله الإنسان في الكشف عما لا يعلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.

وأحدث الثورات التي يعيشها العالم اليوم: الثورة الجينية؛ الكاشفة عن خريطة مفاتيح التحكم في منظومة الجينات المعقدة، وتاريخها ومستقبلها وعلاجها.

القرآن يربط المعرفة بـ﴿اسْمِ رَبِّكَ﴾، ليحمي الإنسان من آثام توظيف العلم توظيفًا منافيًا للأخلاق؛ كالعبث بالهوية الإنسانية، والخلط بين الإنسان والحيوان، ومحاولة التدخُّل في جوهر الكينونة البشرية، والغفلة عن فطرة آدم؛ الذي كان طينًا ثم صار خَلْقًا آخر بعد نفخ الروح فيه.

ومن أبيات للبابا شُنودة الثالث:

يَا تُرَابَ الأَرْضِ يَا جَدِّ *** ي وَجَدِّ النَّاسِ طُرَّا

أَنْتَ أَصْلِي أَنْتَ يَا أَقْـ *** ـدَمَ مِن آدَمَ عُمْرَا

وَمَصِيرِي أَنْتَ فِي الْقَبْـ *** ـرِ إِذَا وُسِّدتُ قَبْرَا

 

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 19-24

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://alsallabi.com/books/view/777


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022