(ابن التراب...)
اقتباسات من كتاب "علمني أبي..مع آدم من الطين إلى الطين" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)
الحلقة: الثانية
صفر 1444ه/ سبتمبر 2022م
في قصة الإسراء والمعراج عرض جبريلُ عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم إناءً من لبن وإناءً من خمر، فاختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم اللبنَ، فقال جبريلُ:
«أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخـَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ».
الفِطْرَة جاءت مع الإنسان الأول، وما يشرب الإنسان أو يأكل يؤثِّر في مزاجه وشخصيته.. فكيف بالمادة الأصلية التي خُلق منها، ومنها تكوَّن لحمه وعظمه وعصبه وأعضاؤه (الطين)؟
الخلق من طين معنى شائع في الكتب السماوية والثقافات البشرية، وثَمَّ أدلة وجدانية في داخلنا تعبِّر عن طينية الإنسان، يلمسها المرء في أنفاسه ومشاعره وأحاسيسه وتقلُّباته..
كنا في ظهر ذلك الرجل الأول، ومررنا بمراحل وآلام وأهوال حتى وصلنا هنا.. ولا زالت الرحلة مستمرة.. بمقدورنا إذًا أن ننسى آلامنا فهي عابرة.
أجيال بعد أجيال مرَّت على هذه الأرض وأنت ما أنت فيهم إِلَّا ومضة قصيرة...
أجد مراحل الطين في ذاتي؛ حين تمر بي تحولات الفرح والحزن، والسعادة والشقاء، والسكون والثورة، واليقين والشك؛ أتذكَّر الطين اللَّازب، والصَّلصال، والحَمَأ المسنون.. بل أتذكَّر الماء الذي عُجن به الطين.. وماء الأرض فيه الحلو العذب الفرات، وفيه الملح الأُجاج، وفيه المُر..
يكشف ذلك التعبير النبوي: «لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ»
نشعر أحيانًا بالشدة والاندفاع، ونشعر أحيانًا أخرى بالضعف والفتور.
بيت من الطين.. ذاك هو الإنسان، وبيوت الطين تُذكِّر بالقرية والبساطة والعلاقات الحميمية الطيبة.
سألتُ صديقًا عن شخص ما، فقال: لقيته بالأمس، وهو غريب الأطوار، تراه اليوم مقبلًا منبسطًا إليك، ثم تراه من الغد وكأنه لا يعرفك! إنه متقلِّب المزاج!
حتى أنا مثله، متردِّد بين الحماس والفتور، والإقبال والإدبار!
القلب يحب حتى يذهل، ثم يُعرض، ويُقدِم ثم يُحجم، ويتسامى ثم ينحط!
مراحل الطين تمر بي جميعها، وأنواع الماء، أجد الحَمَأ المسنون في مسام الجسد فأحتاج لمعالجته؛ لأشعر بنشوة النظافة ونفثة العطر.
وأجده في مسام الروح فأحتاج للتهليل والتسبيح والذكر والاستغفار؛ لأمحو لحظة غفلة أو شرود أو استجابة للنفس الأمارة.
تقع لي مشكلة مع متابع لا يراني إلا متفائلًا مبتسمًا سعيدًا، حتى ظن أني من طينة غير طينته.. كلا؛ ولكني أظهر الحسن وأستر القبيح!
أهذا خطؤه؟ أم خطئي؟ أم خطؤنا معًا؟
الطين خصب قابل للإنبات.. تكون فيه الورود والأزهار والأشجار النافعة، وتكون الأشواك والأشجار السامة والمخدِّرة.. وقد تتجاور هذه وتلك، هكذا نحن فينا التقوى والفجور، وفينا المؤمن والكَفُور..
الإنسان خليفة في الأرض، فأن يكون مخلوقًا من طينها فذلك أدعى لنجاحه في استعمارها، والغوص في أسرارها، ومعرفة قوانينها، والضرب فيها.
العمل والكد والكدح و(عرق الجبين) ليس عيبًا.. إنه سر التميز والإبداع.
الطين يمنح المرونة والتشكّل والتكيف مع الظروف والمتغيِّرات المناخية والاجتماعية، بخلاف ما لو كان الخَلْق من القش أو من الصخر، الصخر قاس لا يلين، والقش متفرق لا يلتئم!
الطين يمنح التنوع، الأبيض والأسود وما بين ذلك، والطيب والخبيث وما بين ذلك، واختلاف الطبائع والميول يثري الحياة ويوسّعها.
عن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحـَزْنُ وَالْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ».
كانت العرب تقول: لا تكن يابسًا فتُكسر، ولا ليِّنًا فتُعصر.
والطين كذلك جمع بين الليونة والقوة.
الطين يوحي بالنهاية: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾.. والنجاح دومًا ممنوح لأولئك الذين يبدؤون العمل وعيونهم على النهاية: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
يبقى التراب أصلنا ولو وضعنا قباب الذهب فوق شواهد قبورنا، وأصررنا على تجاوز البساطة حتى بعد موتنا!
أيها الحزانى: أمواتكم محفوظون في تربتهم؛ التي خُلقوا منها وإليها عادوا، وسوف تلقيهم الرحم مرة أخرى لميقات يوم معلوم..
إذا جاز التعبير عن الخَلْق الأول بالولادة من الأرض، فالأرض هي الأم الرَّؤوم الصابرة المتحمِّلة لكل عبثنا وشقاوتنا، بل وحماقاتنا الكبيرة.
هي أمنا وأصلنا، فلا غرابة أن نتأذَّى يوم أن يستشري على ظهرها الفساد والظلم!
حين نقترب من التربة التي وُلدنا فيها ومنها وعليها نشعر بالدفء والعافية: «تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى بِهَا سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا».
وحين نأكل منتجاتها الفطرية الطبيعية السالمة من الدَّخَل نكون أقرب للشفاء والصحة..
ولا غرابة أن نشعر بالخوف إذا ما فارقناها فخضنا لُجج البحار أو صعدنا أقطار الفضاء!
نحن أبناء التراب نطؤه بأقدامنا لنتعلم التواضع وننفي الكِبْر والخُيَلاء.. وهل يتكبَّر الإنسان إلا ساعة ينسى أنه طين؟!
نَسِيَ الطِّينُ سَاعَةً أَنَّهُ طِيْنٌ *** حَقِيرٌ فَصَالَ تِيْهًا وَعَرْبَدْ
وَكَسَى الخَزُّ جِسْمَهُ فَتَبَاهَى *** وَحَوَى المَالَ كِيسُهُ فَتَمَرَّدْ
يَا أَخِي لَا تَمِلْ بِوَجْهِكَ عَنِّي *** مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلَا أَنْتَ فَرْقَدْ
أَأمَانيَّ كُلُّهَا مِنْ تُرَابٍ *** وَأَمَانِيكَ كُلُّها مِنْ عَسْجَدْ؟!
وَأَمَانِيَّ كُلُّهَا لِلتَّلَاشِي *** وَأَمَانِيكَ لِلْخُلُودِ الْـمُؤَكَّدْ؟!
مهما صعدنا للفضاء، وترقَّينا في المعارف، ودارت رؤوس بعضنا بالكِبْر المعرفي أو المالي أو السلطوي، يظل التراب يطوِّقنا ويجرنا إليه، ويعيدنا لأصلنا الأول!
حين تقارن، قارن أحسن ما فيك بأسوأ ما فيك لترتقي وتسمو، ولا تقارن أحسن ما فيك بأسوأ ما عند الآخرين ليظهر تفوقك ونقصهم!
الذين لا ينظرون إلا للجانب السيِّئ فيك يشبهون صفة الشيطان يوم نظر إلى أدنى المراحل التي مر بها آدم، مرحلة الحَمَأ المسنون المنتن: ﴿قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب علمني أبي للشيخ سلمان العودة، صص 17-13
يمكنكم تحميل كتاب "علمني أبي" من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:
http://www.alsallabi.com/uploads/books/16630862370.pdf