الخميس

1446-05-19

|

2024-11-21

كان عليّ -رضي الله عنه- عضوًا بارزًا في مجلس شورى الدولة العمرية، بل كان هو المستشار الأول، فقد كان عمر -رضي الله عنه- يعرف لعليّ فضله، وفقهه، وحكمته، وكان رأيه فيه حسنًا، فقد ثبت قوله فيه: أقضانا عليّ, وقال ابن الجوزي: كان أبو بكر وعمر يشاورانه، وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن, وقال مسروق: كان الناس يأخذون عن ستة: عمر وعليّ وعبد الله وأبي موسى وزيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب وقال: شاممت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر: عمر، وعليّ، وعبد الله، وأبي الدرداء، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ثم شاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين منهم: إلى علي، وعبد الله, وقال أيضًا: انتهى العلم إلى ثلاثة: عالم بالمدينة، وعالم بالشام، وعالم بالعراق. فعالم المدينة علي بن أبي طالب، وعالم الكوفة عبد الله بن مسعود، وعالم الشام أبو الدرداء، فإذا التقوا سأل عالم الشام وعالم العراق، عالم المدينة ولم يسألهما, فكان عليّ من هؤلاء المقربين، يشدّ من أزر أخيه، ولا يبخل عليه برأيه، ويجتهد معه في إيجاد حلول للقضايا، التي لم يرد فيها نصّ، وفي تنظيم أمور الدولة الفتية، والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر منها: 

أولاً: في الأمور القضائية: 
1- امرأة تعتريها نوبات من الجنون: عن أبي ظبيان الجنبي: أن عمر بن الخطاب أُتي بامرأة قد زنت، فأمر برجمها، فذهبوا بها ليرجموها، فلقيهم علي -رضي الله عنه- فقال: ما هذه؟ قالوا: زنت فأمر عمر برجمها، فانتزعها عليّ من أيديهم وردّهم، فرجعوا إلى عمر، فقال: ما ردّكم؟ قالوا: ردنا عليّ، قال: ما فعل هذا عليّ إلاّ لشيء قد علمه، فأرسل إلى عليّ، فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رَدَدْتَ هؤلاء؟ قال: أما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المُبتلى حتى يعقل؟" قال: بلى، قال عليّ: فإن هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري، فلم يرجمها, فقد كان عمر لا يعلم أنها مجنونة. 
2- مضاعفة الحد لمن شرب الخمر: أخذ عمر برأي علي -رضي الله عنهما- في مضاعفة الحد لمن شرب الخمر، وذلك لانتشار شرب الخمر وخاصة في البلاد المفتوحة، وهي حديثة العهد بالإسلام، فأشار عليّ على عمر -رضي الله عنهما- بأن يجلد فيها ثمانين، كأخف الحدود، وعلّل ذلك بقوله: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، وقد ثبت عن عليّ -رضي الله عنه- أنه قال: ما كنت أقيم حدًا على أحد، فيموت، وأجد في نفسي، إلاّ صاحب الخمر، فإنه لو مات وَدَيْتُه، وذلك لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسنّه. وأوَّل البيهقي قوله: (لم يسنّه) زيادة على الأربعين، أو لم يسنّه بالسياط وقد سنّه بالنعال وأطراف الثياب مقدار أربعين والله أعلم, وقد استنبط الفقهاء من أفعال الخلفاء الراشدين مقدار الحد في الخمر، على قول مالك والثوري وأبي حنيفة ومن تبعهم ثمانون، لإجماع الصحابة، ومن قال إن الحد أربعون: أبو بكر، والشافعي، وقول لأحمد، وتُحمل الزيادة على ذلك من عمر-رضي الله عنه- على أنها تعزير يجوز فعله إذا رآه الإمام، وهذا هو القول الصحيح للشافعي, وهذا الرأي مال إليه ابن تيمية أيضاً وقال:.. فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب، فتكفي الأربعون.
3- لا سلطان لك على ما في بطنها: أُتي عمر -رضي الله عنه- بامرأة حامل فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر تُرجم، فلقيها عليّ فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر بها أمير المؤمنين أن تُرجم، فردها علي فقال: أأمرت بها أن ترجم؟ قال: نعم، اعترفت عندي بالفجور! قال: هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها؟ قال علي: فلعلك انتهرتها, أو أخفتها؟ قال: قد كان ذاك، قال: أو ما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا حد على معترف بعد بلاء، أنه من قيدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له» فخلى عمر سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل علي بن أبي طالب، لولا علي لهلك عمر. 
وقد علق ابن تيمية على هذه القصة: إن هذه القصة إن كانت صحيحة، فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل، فأخبره عليّ بحملها، ولا ريب أن الأصل عدم العلم، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل، فعرّفه بعض الناس بحالها، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس... إلى أن قال عن عمر، يعطي الحقوق، ويقيم الحدود، ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهورًا لم يكن قبله مثله، وهو دائمًا يقضي، ويفتي ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك، فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك؟ وكان رده هذا في سياق رده على الروافض. 
4- ردوا الجهالات إلى السنة: أُتي عمر بامرأة أنكحت في عدتها، ففرق بينهما، وجعل صداقها في بيت المال وقال: لا أجيز مهرًا ردّ نكاحه، وقال: لا تجتمعان أبدًا، فبلغ ذلك عليًا فقال: وإن كانوا جهلوا السنة لها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب، فخطب عمر الناس فقال: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع عمر إلى قول عليّ. 
5- هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي: قال جعفر بن محمد: أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار وكانت تهواه، فلما لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة، فألقت صفارها، وصبت البياض على ثوبها وبين فخذها ثم جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي، وهذا أثر فعاله، فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المني، فهمّ بعقوبة الشاب، فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبّت في أمري، فو الله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فقد راودتني عن نفسي فاعتصمت، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟ فنظر علي إلى ما على الثوب، ثم دعا بماء حار شديد الغليان، فصبّ على الثوب فجمد ذلك البياض ثم أخذه واشتمه، وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة فاعترفت. 

ونستخلص من هذه الواقعة بعض الدروس: 
(أ) أن وسائل الإثبات في القضاء الإسلامي كانت تشمل الإقرار والشهادة واليمين والنكول.. وتتسع لتشمل الأمارات والفراسة. 
(ب) اهتمام عمر بمشاورة كبار الصحابة في النوازل، وعلى الخصوص علي- رضي الله عنهما- الذي كانت منزلته عنده متميزة. 

ثانيًا: علي -رضي الله عنه- والتنظيمات المالية والإدارية العمرية: 
1- في الأمور المالية: 
(أ) نفقات الخليفة: لما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا، لا يأكل من بيت المال شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، ولم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته؛ لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر، فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف. 
(ب) رأي علي في أرض السواد بالعراق: لما فُتحت أرض السواد بالعراق عنوة، أشار عدد من الصحابة – رضوان الله عليهم- على عمر بتقسيمها بين الفاتحين، ولكن لسعة الأرض وجودتها، ونظرة عمر البعيدة لمن سيأتي بعد ذلك، لم يطمئن عمر لتقسيمها، فاستشار عليًا في ذلك فكان رأيه موافقًا لرأي الخليفة عمر ألاّ تُقسّم فأخذ برأيه وقال: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلاّ قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- خيبر. 
(ج) لا جرم لتقسمنه: أُتي عمر بمال فقسمه بين المسلمين، وفضلت منه فضله، فاستشار فيها الصحابة، فقالوا له: لو تركته لنائبة إن كانت، وفي القوم علي ساكت، فأراد عمر أن يسمع رأي علي في ذلك، فذكّره علي بحديث مال البحرين حين جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه قسمه كله، فقال عمر لعلي: لا جرم لتقسمنه، فقسمه علي, ويبدو أن هذا كان قبل تقسيم الدواوين. 

2- علي -رضي الله عنه- والأمور الإدارية: 
عندما احتاج عمر -رضي الله عنه- أن يضع تاريخًا رسميًا ثابتًا لتنظيم أمور الدولة وضبطها، جمع الناس وسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟ فقال علي رضي الله عنه: من يوم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك أرض الشرك، ففعله عمر, وقد كان عمر – رضي الله عنه – يراه من أفضل من يقود الناس فقد ورد عنه أنه كان يناجي رجلاً من الأنصار، فقال: من تحدثون أنه يستخلف من بعدي؟ فعد الأنصاري المهاجرين ولم يذكر عليًا، فقال عمر: فأين أنتم من علي؟ فو الله لو استخلفتموه، لأقامكم على الحق وإن كرهتموه. وقال لابنه عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما – بعد أن طعن: إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق. 

3- استخلف عمر عليًا على المدينة مرارًا: 
(أ) استخلافه حين خرج عمر إلى ماء صراء فعسكر فيه: وذلك قبيل القادسية، وكان الفرس قد حشدوا للمسلمين، فجمع عمر الناس فاستشارهم فكلهم أشار عليه بالميسر. 
(ب) استخلافه عند نزول عمر بالجابية: وذلك حين نزل عمرو بن العاص أجنادين، فكتب إليه أرطبون الروم، والله لا تفتح من فلسطين شيئًا بعد أجنادين، فارجع لا تغر، وإنما صاحب الفتح رجل اسمه على ثلاثة أحرف، فعلم عمرو أنه عمر، فكتب يعلمه أن الفتح مدخر له، فنادى له الناس، واستخلف علي بن أبي طالب. 
(ج) استخلاف علي حين حج عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: وهى آخر حجة حجها بالناس كانت سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكان مع أمهات المؤمنين أولياؤهن ممن لا يحتجبن منه، وخلف على المدينة علي بن أبي طالب. 

ثالثًا: استشارة عمر لعلي -رضي الله عنهما- في أمور الجهاد وشؤون الدولة: 
كان علي -رضي الله عنه- المستشار الأول لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وكان عمر يستشيره في الأمور الكبيرة منها والصغيرة، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فُتحت المدائن، وعندما أراد عمر التوجه إلى نهاوند وقتال الفرس، وحين أراد أن يخرج لقتال الروم، وفي وضع التقويم الهجري وغير ذلك من الأمور, وكان علي -رضي الله عنه- طيلة حياة عمر مستشارًا ناصحًا لعمر، محبًا له خائفًا عليه، وكان عمر يحب عليًا، وكانت بينهما مودة ومحبة وثقة متبادلة، ومع ذلك يأبي أعداء الإسلام إلاّ أن يزوّروا التاريخ، ويقصوا بعض الروايات التي تناسب أمزجتهم ومشاربهم ليصوروا لنا فترة الخلفاء الراشدين عبارة عن أن كل واحد منهم كان يتربص بالآخر الدوائر لينقضّ عليه، وكل أمورهم كانت تجري من وراء الكواليس. 
إن من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر تلك الخصوصية في العلاقة، وذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلي-رضي الله عنهما- فقد كان علي هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات، وما اقترح على عمر رأيًا إلاّ واتجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وكان علي -رضي الله عنه- يمحضه النصح في كل شؤونه وأحواله, فمثلاً عندما تجمّع الفرس بنهاوند في جمع عظيم لحرب المسلمين جمع عمر- رضي الله عنه – الناس واستشارهم في المسير إليهم بنفسه، فأشار عليه عامة الناس بذلك، فقام إليه علي – رضي الله عنه- فقال: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت أهل اليمن إلى ذراريهم من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة، فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددًا لهم. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا قالوا: هذا أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك، وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر، فقال عمر: هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه. 
كانت نصيحة علي نصيحة المحب لعمر الغيور عليه، والضنين ألاّ يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب وهو في مكانه، وحذّره من أنه إذا ذهب، فلسوف ينشأ وراءه من الثغرات ما هو أخطر من العدو الذي سيواجهه، أرأيت لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن أن الخلافة من بعده لعلي، أفكان لعلي أن يرغب عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا، وأن يؤيد المستلبين لحقه بل لواجبه في الخلافة بمثل هذا التعاون المخلص البنّاء؟ بل أفكان للصحابة -رضوان الله عليهم- كلهم أن يضيعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل أفكان من المتصوّر أن يجمعوا وفي مقدمتهم علي -رضوان الله عليه- على ذلك؟ بوسعنا أن نعلم إذن بكل بداهة، أن المسلمين إلى هذا العهد – نهاية عهد عمر – بل إلى نهاية عهد علي كانوا جماعة واحدة، ولم يكن في ذهن أي من المسلمين أي إشكال بشأن الخلافة، أو شأن من هو أحق بها. 
إن كثرة مشاورة عمر لعلي- رضي الله عنهما- وغيره من الصحابة، لا يعني هذا أنه دونهم في الفقه والعلم، فقد بينت الأحاديث الصحيحة التي تدل على علوّ علمه، واكتمال دينه، ولكن إيمانه وحبه للشورى، وتعويده للحكام فيما بعد على المشاورة، وعدم الاستبداد بالأمر والرأي، وإلا فإن عليًا -رضي الله عنه- كان كثيرًا ما يرجع عن رأيه إلى رأي عمر, فقد جاء عن عائشة- رضي الله عنها- في معرض حديثها عن عمر قولها: وقد كان علي -رضي الله عنه- يتابع عمر بن الخطاب، فيما يذهب إليه ويراه، مع كثرة استشارته عليًا، حتى قال علي -رضي الله عنه-: يشاورني عمر في كذا، فرأيت كذا، ورأى هو كذا، فلم أر إلاّ متابعة عمر. 

رابعًا: علي -رضي الله عنه- وأولاده وعلاقتهم بعمر -رضي الله عنهم-: 
كان عمر -رضي الله عنه- شديد الإكرام لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيثارهم على أبنائه وأسرته، نذكر من ذلك بعض المواقف: 
1- أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر: جاء فيما رواه الحسين بن علي رضي الله عنه: أن عمر قال لي ذات يوم: أي بني لو جعلت تأتينا وتغشانا؟ فجئت يومًا وهو خالٍ بمعاوية، وابن عمر بالباب لم يؤذن له، فرجعت فلقيني بعد، فقال: يا بني، لم أرك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع، فرجعت، فقال: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر. إنما أنت في رؤوسنا ما ترى: الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه. 
2- والله ما هنأ لي ما كسوتكم: روى ابن سعد عن جعفر بن محمد الباقر، عن أبيه علي بن الحسين، قال: قدم على عمر حلل من اليمن، فكسا الناس فراحوا في الحلل، وهو بين القبر والمنبر جالس، والناس يأتونه فيسلمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن والحسين من بيت أمهما فاطمة -رضي الله عنها- يتخطيان الناس، ليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صار بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأحسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطيان الناس وليس عليهما من شيء كبرت عنهما وصغرا عنها، ثم كتب إلى والي اليمن أن ابعث بحلتين لحسن وحسين، وعجِّل، فبعث إليه بحلتين فكساهما. 
3- تقديم بني هاشم في العطاء: عن أبي جعفر أنه لما أراد أن يفرض للناس بعدما فتح الله عليه، وجمع ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابدأ بنفسك، فقال: لا والله، بالأقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بني هاشم رهط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفرض للعباس، ثم لعلي، حتى والى بين خمس قبائل، حتى انتهى إلى بني عدي بن كعب، فكتب: من شهد بدرًا من بني هاشم، ثم من شهد بدرًا من بني أمية بن عبد شمس، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض الأعطيات لهم وفرض للحسن والحسين لمكانهما من رسول الله. 
4- كساني هذا الثوب أخي وخليلي: خرج علي وعليه برد عدني فقال: كساني هذا الثوب أخي وخليلي وصفيي وصديقي أمير المؤمنين عمر. وفي رواية عن أبي السفر قال: رُئِي على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برد كان يكثر لبسه قال: فقيل: يا أمير المؤمنين، إنك لتكثر لبس هذا البرد؟ فقال: نعم، إن هذا كسانيه خليلي وصفيي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ناصح الله فنصحه، ثم بكى. 
5- أقطاع ينبع: أقطع عمر بن الخطاب عليًا ينبع، ثم اشترى علي إلى قطيعة عمر أشياء فحفر فيها عينًا، فبينما هم يعملون فيها إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء، فأتى عليّ وبشّر فتصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله ليوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ليصرف الله تعالى بها وجهه عن النار، ويصرف النار عن وجهه، وكتب في صدقته: هذا ما أمر به علي بن أبي طالب وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذنية وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغي مرضاة الله، يُنفق منها في كل منفعة في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود وذوي الرحم القريب والبعيد، لا يُباع ولا يوهب، ولا يورث حيًا أنا أو ميتًا، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، ولا أبتغي إلاّ الله عز وجل، فإنه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بيني وبين الله عز وجل. 
6- لتقولن يا أبا حسن: اجتمع عند عمر جماعة من قريش فيهم علي فتذكروا الشرف، وعلي ساكت فقال عمر: مالك يا أبا الحسن ساكتًا؟ فكأن عليًا كره الكلام، فقال عمر: لتقولن يا أبا الحسن، فقال علي: 

في كلِّ معتركٍ تزيلُ سيوفُنا 
فيها الجماجمَ عن فراخِ الهامِ 

اللهُ أكرمنا بنصر نبيِّهِ 
وبنا أعزَّ شرائعَ الإسلامِ 

ويزورُنا جبريلُ في أبياتِنا 
بفرائضِ الإسلامِ والأحكامِ 


7- حوار بين أمير المؤمنين عمر وعلي حول الرؤيا: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال، فتكون رؤياه كأخذ اليد، ويرى الرجل الشيء، فلا تكون رؤياه شيئًا، فقال علي بين أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول: (اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [الزمر: 42]. 

خامسًا: زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: 
زوّج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابنته من فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفاروق حينما سأله زواجها منه -رضي الله عنه- بما يطلب، وثقة فيه وإقرارًا لفضله ومناقبه، واعترافًا بمحاسنه وجمال سيرته، وإظهارًا بأن بينهم من العلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد من أعداء الأمة المجيدة، ويرغم أنوفهم, فقد كان عمر يكن لأهل البيت محبة خاصة لا يكنّها لغيرهم لقرابتهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إكرام أهل البيت ورعاية حقوقهم، فمن هذا الباعث خطب عمر أم كلثوم ابنة علي وفاطمة -رضوان الله عليهم- وتودّد إليه في ذلك قائلاً: فو الله ما على الأرض رجل يرصد من حسن صحبتها ما أرصد، فقال علي: قد فعلت، فأقبل عمر إلى المهاجرين، وهو مسرور قائلاً: رفئوني.. ثم ذكر أن سبب زواجه منها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ ما كان من سببي ونسبي»، فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبب, ولقد أقر بهذا الزواج كل أهل التاريخ والأنساب وجميع محدثي الشيعة وفقهائهم ومكابريهم ومجادليهم وأئمتهم المعصومين حسب زعمهم، ولقد أورد الشيخ إحسان إلهي ظهير روايات بخصوص ذلك في كتابه الشيعة والسنة, ولقد ذكر هذا الزواج علماء أهل السنة في التاريخ، وأجمعت مصادرهم عليه، ومن العلماء الذين ذكروا هذا الزواج: الطبري, وابن كثير, والذهبي, وابن الجوزي والديار بكرى, وقد ذُكر هذا الزواج في كتب التراجم، كابن حجر, وابن سعد, وأسد الغابة، وقد قام الأستاذ أبو معاذ الإسماعيلي في كتابه زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- حقيقة وليس افتراء، بتتبع مراجع مصادر الشيعة وأهل السنة فيما يتعلق بهذا الزواج، ورد على الشبهات التي أُلصقت بهذا الزواج الميمون، وقد ذكرت شيئًا من سيرتها ومواقفها في حياتها في عهد الفاروق في كتابي (فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شخصيته وعصره). 
هذا وقد ولدت أم كلثوم بنت علي من عمر -رضي الله عنه- ابنة سُمّيت (رقية) وولدًا سمته زيدًا، وقد روى أصحاب زيد أن زيد بن عمر حضر مشاجرة في قوم من بني عدي بن كعب ليلاً فخرج إليهم زيد بن عمر ليصلحهم فأصابته ضربة شجت رأسه ومات من فوره، وحزنت أمه لقتله، ووقعت مغشيًا عليها من الحزن فماتت من ساعتها، ودفنت أم كلثوم وابنها زيد بن عمر في وقت واحد، وصلى عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، قدمه الحسن بن علي بن أبي طالب، وصلى خلفه. 

سادسًا: يا بنت رسول الله، ما أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك، وما أحد من الخلق بعد أبيك أحب إلينا منك: 
عن أسلم العدوي قال: لما بويع لأبي بكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان علي والزبير بن العوام يدخلان على فاطمة فيشاورانها، فبلغ عمر، فدخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله، ما أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك، وما أحد من الخلق بعد أبيك أحب إلينا منك، وكلّمها، فدخل علي والزبير على فاطمة فقالت: انصرفا راشدين، فما رجعا إليها حتى بايعا, وهذا هو الثابت الصحيح والذي مع صحة سنده ينسجم مع روح ذلك الجيل وتزكية الله له. وقد زاد الروافض في هذه الرواية واختلقوا إفكا وبهتانًا وزورًا، وقالوا إن عمر قال: إذا اجتمع عندك هؤلاء النفران لأُحرقنَّ عليهم هذا البيت؛ لأنهم أرادوا شق عصا المسلمين بتأخرهم عن البيعة، ثم خرج عنها، فلم يلبث أن عادوا إليها، فقالت لهم: تعلمون أن عمر جاءني وحلف بالله لئن أنتم عدتم إلى هذا البيت ليحرقنه عليكم، وايم الله، إنه ليصدقن فيما حلف عليه، فانصرفوا عني فلا ترجعوا إليّ ففعلوا ذلك، ولم يرجعوا إليها إلاّ بعدما بايعوا. وهذه القصة لم تثبت عن عمر -رضي الله عنه- ودعوى أن عمر -رضي الله عنه- همّ بإحراق بيت فاطمة، من أكاذيب الرافضة، أعداء صحابة رسول الله، وقد أوردها مع أكاذيب أخرى الطبري الطبرسي في كتابه دلائل الإمامة, عن جابر الجعفي، وهو رافضي كذاب باتفاق أئمة الحديث كما في الميزان للذهبي، وتهذيب التهذيب, وزعم بعض الروافض أن عمر ضرب فاطمة حتى أسقط ولدها محسنًا وهو في بطنها، وهذه من الأكاذيب الرافضة التي لا أساس لها من الصحة، وما علموا أنهم يطعنون في علي -رضي الله عنه- وذلك باتهامه بالجبن والسكوت عن عمر، وهو من أشجع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إن بعض كتب الروافض أنكر صحة هذا الهذيان والزور، علمًا بأن محسنًا وُلد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت ذلك بالرواية الصحيحة. 

سابعًا: الخلاف بين العباس وعلي وحكم عمر -رضي الله عنهم- بينهما: 
قال مالك بن أوس: بينما أنا جالس في أهلي حين متع النهار, إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى دخلت على عمر، فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلّمت عليه ثم جلست، فقال: يا مالك، إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ، فاقبضه فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيها المرء، فبينما أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص، يستأذنونك؟ قال: نعم، فأذن لهم فدخلوا فسلموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيرًا، ثم قال: هل لك في عليّ وعباس؟ قال: نعم، فأذن لهما فدخلا فسلّما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- من مال بني النضير، فقال الرهط – عثمان وأصحابه-: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر. قال عمر: تيدكم, أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة» يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على عليّ، وعباس، فقال: أنشدكما بالله، أتعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خصّ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره، ثم قرأ: ( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). [الحشر:6]. فكانت هذه خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- و والله ما احتازها دونكم، ولا أستأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي، فيجعله مال الله، فعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك حياته، أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قال عمر: ثم توفى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركم واحد، جئتني يا عباس، تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا «يريد عليًا» يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة» فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما، على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما عمل أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، ثم أقبل على عليّ وعباس فقال: أنشدكم بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلتمسان مني غير ذلك، فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ، فإني أكفيكماها. 

ثامنًا: ترشيح عمر عليًا للخلافة مع أهل الشورى، وما قاله علي في عمر بعد استشهاده: 
1- ترشيح علي مع أهل الشورى: لما طُعن عمر -رضي الله عنه- وظن أنه سيفارق الحياة، وأخذ المسلمون يدخلون عليه، ويقولون له: أوصِ يا أمير المؤمنين، استخلف، فقال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر – أو الرهط- الذين تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ فسمّى عليًا، وعثمان، والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن, ثم دعا خاصتهم، وهم: عبد الرحمن، وعثمان، وعلي فوعظهم. إن عمر -رضي الله عنه- إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن الستة الذين تُوفّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ أحق من غيرهم، وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم، وجعل التعيين إليهم خوفًا أن يعين واحدًا منهم، ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون أحدًا منهم، وهذا اجتهاد إمام عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه، وهو نموذج واقعي لتطبيق قول الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). [الشورى:38] وقال: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ). [آل عمران: 159]، فكان ما فعله من الشورى مصلحة. 
إن الفاروق -رضي الله عنه- رأى الأمر في الستة متقاربًا، فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحدًا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوبًا إليه، فترك التعيين خوفًا من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم، فجمع بين المصلحتين، بين تعيينهم إذ لا أحق منهم، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير، والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان، فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة، ولا يقال إنه بجعله الأمر شورى بين الستة قد خالف به من تقدمه كما هو زعم الشيعة الرافضة؛ لأن الخلاف نوعان: خلاف تضادّ وخلاف تنوّع، وما فعله عمر – رضي الله عنه – من النوع الثاني, وقد أقره على اجتهاده كل الصحابة ولم نسمع أحدًا عارضه، وقد بسطت ما ابتكره عمر من طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده في كتابي "فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره"، فمن أراد التوسع فليرجع إليه مشكورًا. 
2- ما قاله علي في عمر بعد استشهاده: قال ابن عباس كما هو في صحيح البخاري: وُضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلاّ رجل آخذ منكبي، إذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدًا أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيرًا ما أسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر. 
3- قول علي في عمر: إن عمر كان رشيد الأمر، وها هو حرصه على عدم مخالفته بعد وفاته. عن عبد خير قال: كنت قريبًا من علي حين جاء أهل نجران قال: قلت: فإن كان رادًا على عمر شيئًا فاليوم، قال: فسلموا واصطفوا بين يديه، قال: ثم أدخل بعضهم يده في كمه، فأخرج كتابًا، فوضعه في يد علي، قالوا: يا أمير المؤمنين، خطك بيمينك وإملاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليك، قال: فرأيت عليًا وقد جرت الدموع على خده قال: ثم رفع رأسه إليهم فقال: يا أهل نجران، إن هذا لآخر كتاب كتبته بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: فأعطنا ما فيه، قال: سأخبركم عن ذاك؛ إن الذي أخذه عمر لم يأخذه لنفسه، إنما أخذه بجماعة من المسلمين، وكان الذي أخذه منكم خيرًا مما أعطاكم، والله لا أردّ شيئًا مما صنعه عمر. إن عمر كان رشيد الأمر, وهذه الحادثة أصل الفقهاء عليها قولهم: لا يرد القاضي اجتهاد قضاء من قبله عن علي, ورُوي عنه أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكونوا جماعة، فإني أخشى الاختلاف, وهو قول جمهور الفقهاء, وقد قال علي: ما كنت لأحل عقدة شدّها عمر. 
4- إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكرهه لذلك: لما فرغ علي من وقعة الجمل، ودخل البصرة، وشيّع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة، فدخلها يوم الاثنين، لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا، إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك، فنزل في الرحبة، وصلّى في الجامع الأعظم ركعتين. 
5- حب أهل البيت لعمر رضي الله عنه: إن من دلالة محبة أهل البيت الفاروق – رضي الله عنه – تسمية أبنائهم باسمه، حبًا وإعجابًا بشخصيته، وتقديرًا لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم إلى الإسلام من الخدمات الجليلة، وإقرارًا بالصلات الودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم؛ فأوّل من سمى ابنه باسمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، سمّى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية عمر, وقد جاء في كتاب صاحب الفضول، حتى ذكر أولاد علي بن أبي طالب: وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبي الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر، وعمَّر عمر هذا حتى بلغ خمسًا وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث علي رضي الله عنه، وذلك أن جميع إخوانه وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قُتلوا جميعهم قبله مع الحسين رضي الله عنه – يعني أنه لم يقتل معهم – بالطف فورثهم, هذا وتبعه حسن في ذلك الحب لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- فسمى أحد أبنائه عمر أيضًا, وكذلك الحسين بن علي سمّى عمر، ومن بعد الحسين ابنه علي الملقب بزين العابدين سمّى أحد أبنائه عمر, وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم سمّى أحد أبنائه عمر, فهؤلاء الأئمة من أهل البيت الذين ساروا على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعالم منهج أهل السنة والجماعة بسيرتهم العطرة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنّونه في صدورهم من حبهم وولائهم له بعد وفاته بمدة، وقد جرى هذا الاسم، وكذلك أبو بكر وعثمان في ذرية أهل البيت ممن ساروا على مذهب الحق وهو منهج أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، ونجد أسماء الصحابة وأمهات المؤمنين في البيوت الهاشمية التي التزمت بالكتاب والسنة، فقد سمّوا طلحة، وعبد الرحمن وعائشة وأم سلمة ونحن ندعو الشيعة اليوم إلى الاقتداء بعلي والحسن والحسين وسائر الأئمة من آل البيت، فيسمّون بعض أبنائهم وبناتهم بأسماء الخلفاء الراشدين، وأمهات المؤمنين. نرجو ذلك. 
6- عمر بن الخطاب جعله الله سببًا في ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب: أعطى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – للحسين بن علي -رضي الله عنهم- من غنائم الفرس ابنة يزدجرد ملك الفرس، فولدت له زين العابدين علي بن الحسين الذي لم يبق من أبناء الحسين غيره، وكل ذرية الحسين تناسلوا منه ويُنسبون إليه, فليحذر الذين يسبون عمر بن الخطاب ممن ينتسبون إلى الحسين، فلولاه بعد الله لما كان لهم وجود, كما أن عمر – رضي الله عنه – أعطى أختها لمحمد بن أبي بكر فكان عديلاً للحسين، وأنجبت له القاسم بن محمد بن أبي بكر، فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعلى بن الحسين زين العابدين ابني خالة. 
7- قول عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب في عمر: عن حفص بن قيس، قال: سألت عبد الله بن الحسن عن المسح على الخفين، فقال: امسح، فقد مسح عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: فقلت: إنما أسألك أنت تمسح؟ قال: ذاك أعجز لك، أخبرك عن عمر وتسألني عن رأيي، فعمر كان خيرًا مني ومن ملء الأرض، فقلت: يا أبا محمد، فإن ناسًا يزعمون أن هذا منكم تقية، قال: فقال لي – ونحن بين القبر والمنبر-: اللهم إن هذا قولي في السر والعلانية، فلا تسمعن عليّ قول أحد بعدي. ثم قال: من هذا الذي يزعم أن عليًا -رضي الله عنه- كان مقهورًا، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره بأمر ولم ينفذه؟ وكفى بإزراء على عليّ ومنقصة أن يزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره بأمر ولم ينفذه. 

المصدر : الاسلام اليوم 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022