الحلقة الثانية والسبعون (72)
آداب سوق المدينة كما وضعها النبيّ صلى الله عليه وسلم
أدَّت هجرة المسلمين إلى المدينة، إلى زيادة الأعباء الاقتصاديَّة الملقاة على عاتق الدَّولة النَّاشئة، وشرع القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم يَحُلُّ هذه الأزمة بطرقٍ عديدةٍ، وأساليب متنوعةٍ، فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء الصُّفَّة التَّابعة للمسجد النَّبويِّ؛ لاستيعاب أكبر عددٍ ممكنٍ من فقراء المهاجرين، واهتمَّ صلى الله عليه وسلم بدراسة الأوضاع الاقتصاديَّة في المدينة؛ فرأى: أنَّ القَّوة الاقتصاديَّة بيد اليهود، وأنَّهم يملكون السُّوق التِّجاريَّة في المدينة، وأموالها، ويتحكَّمون في الأسعار والسِّلع، ويحتكرونها، ويستغلُّون حاجة النَّاس، فكان لابدَّ من بناء سوقٍ للمسلمين؛ لينافسوا اليهود على مصادر الثَّروة، والاقتصاد في المدينة، وتظهر فيها آداب الإسلام، وأخلاقه الرَّفيعة في عالم التِّجارة، فحدَّد صلى الله عليه وسلم مكاناً للسُّوق في غرب المسجد النَّبوي، وخَطَّه برجله، وقال: «هذا سوقُكم، فلا ينتقصنَّ، ولا يضربنَّ عليه خراجٌ» [ابن ماجه (2233)] .
وقد قامت السُّوق في عهده صلى الله عليه وسلم رَحْبةً واسعةً، وقد حظي السُّوق باهتمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ورعايته، فتعهَّده بالإشراف، والمراقبة، ووضع له ضوابطَ، وسنَّ له آداباً، وطهَّره من كثيرٍ من بُيُوع الجاهليَّة؛ المشتملة على الغَبْنِ، والغَرَرِ، والغشِّ، والخداع، كما عُنِي صلى الله عليه وسلم بحرِّيته، وإتاحة الفرص المتكافئة فيها للبيع والشِّراء، بين الجميع على السَّواء.
وقد أرسى صلى الله عليه وسلم آداباً كثيرة، وحرماتٍ عديدةً لسوق المدينة؛ لكي تُصان ولا تنتهك، وتحفظ فلا تخدش، ولا يستهان بها، ولكي يصبح قدوةً لأسواق الأمَّة على مَرِّ الدُّهور، وكَرِّ العصور، وتوالي الأزمان، فمن سيرته يمكننا أن نستنبط جملةً من الآداب الَّتي كان يأمر بها، أو ينهى عنها أثناء دخوله إلى السُّوق، وإشرافه عليه، ومتابعته سير المعاملات فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرى منكراً إلا غيَّره، وأزاله، ولا معروفاً إلا أقرَّه، ورغب في المواظبة عليه، والالتزام به، مستمدّاً كلَّ ذلك من توجيهات، وتعليمات ربِّه سبحانه وتعالى، قال تعالى:﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3 - 4].
ومن هذه الآداب:
1 - يُسَنُّ في حقِّ الدَّاخل إلى السُّوق أن يذكر الله - تعالى - ابتداءً، ويحمده، ويثني عليه؛ وذلك لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم : أنَّه قال: «مَنْ دخل السُّوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي، ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ كتب الله له ألف حسنةٍ، ومحا عنه ألف سيئةٍ، ورفع له ألف درجةٍ، وبنى له بيتاً في الجنة» [الترمذي (3428) وابن ماجه (2235) والحاكم (1/538)] .
«وإنَّما خصَّ السُّوق بالذِّكر؛ لأنَّه مكان الغفلة عن ذكر الله، والاشتغال بالتِّجارة، فهو في موضع سلطنة الشَّيطان، ومجمع جنوده، فالذِّكر هنا يحارب الشَّيطان، ويهزم جنوده ؛ فمن قال ذلك فهو خليقٌ بما ذُكر من الثَّواب».
2 - يُكره لمن دخل السُّوق أن يرفع صوته بالخصام واللَّجاج؛ فقد ورد في صفته صلى الله عليه وسلم : أنَّه: «ليس بفظٍّ، ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكن يعفو، ويغفرُ» [البخاري (2125)] . فالصَّخَب مذمومٌ بذاته، فكيف إذا كان في الأسواق؛ الَّتي هي مجمع النَّاس من كلِّ جنسٍ؟!.
3 - ينبغي المحافظة على نظافة الأسواق، والابتعاد عن تلويثها بالأقذار، والأوساخ؛ لكي لا يُؤْذَى المسلمون في حركة سيرهم، ولا بالرَّوائح الكريهة، وقد حثَّ صلى الله عليه وسلم على النَّظافة، ونهى عن عدمها؛ وخاصَّةً في طرقات النَّاس، وأسواقهم؛ وذلك لما فيها من الضَّرر، قال صلى الله عليه وسلم : «اتَّقوا اللَّعَّانَيْنِ» قالوا: وما اللَّعَّانَانِ يا رسولَ الله؟! قال: «الَّذي يَتَخَلَّى في طريق النَّاس، أو في ظِلِّهم» [مسلم (269) وأبو داود (25)] .
4 - الاحتراز في حمل السِّلاح لمن دخل السُّوق، ومعه سلاحٌ؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنَّه قال: «إذا مرَّ أحدكم في مسجدنا، أو في سوقنا، ومعه نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ على نِصَالها ـ أو قال: فليقبضْ بكفِّه - أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيءٍ» [البخاري (7075) ومسلم (2615)] ويقاس عليه الأسلحة، مع ما فيها من خطرٍ محقَّقٍ عند أدنى ملامسةٍ لها.
5 - الأمر بالوفاء بالعقود، والعهود، وسائر الالتزامات، والتَّحذير من نقضهما، أو الغدر فيهما، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91] .
6 - السُّهولة، واليسر، والمسامحة في البيع، والشِّراء، ونحوهما من صنوف التِّجارة، قال صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللهُ عبداً سَمْحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى» [البخاري (2076) والترمذي (1320) وابن ماجه (2203)] .
7 - الصِّدقُ، والبيانُ، وعدم الكتمانِ من أهمِّ الآداب الَّتي يجب أن تسري بين النَّاس في معاملاتهم؛ فقد أثنى صلى الله عليه وسلم على التَّاجر الصَّادق في معاملته، الأمين في أخذه، وعطائه، وبيَّن: أنَّه يُحْشر يوم القيامة مع النَّبيِّين، والصِّديقين، والشُّهداء، وحَسُنَ أولئك رفيقاً، قال صلى الله عليه وسلم : «التَّاجر الصَّدوق الأمين، مع النَّبيِّين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء» [الترمذي (1209)] وفي لفظٍ: «يوم القيامة» [ابن ماجه (2139)] .
8 - وجوب الابتعاد عن الأَيْمان الكاذبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ للرِّبْحِ» [البخاري (2087) ومسلم (1606)]، وقال صلى الله عليه وسلم : «إيَّاكم وكَثرةَ الْحلِفِ في البيع! فإنَّه يُنْفِقُ، ثمَّ يَمْحَقُ» [مسلم (1607) والنسائي (7/246) وابن ماجه (2209)] . «فالحالف يروِّج سلعته، وينفقها، لكن هذا الرَّواج، وذلك الآنفاق موضعٌ لنقصان البركة، ومظنَّةٌ له في المال، بأن يسلط الله عليه وجوهاً يتلف فيها؛ إمَّا سرقاً، أو حرقاً، أو غرقاً، أو غصباً، أو نهباً، أو عوارض يُنفَق فيها من أمراضٍ وغيرها».
هذه بعض الآداب والتَّوجيهات النَّبويَّة، تتعلَّق بآداب التَّعامل في السُّوق الإسلاميِّ؛ ممَّا كان لها الأثر في تعمير أسواق المسلمين، وضعف أسواق اليهود؛ وبذلك استطاع المسلمون أن يسيطروا على الاقتصاد في المدينة ويتحكَّموا فيه، وهكذا قهروا اليهود في أدقِّ اختصاصاتهم.
ولقد تطوَّرت تلك التعاليم، والآداب مع توسُّع الدَّولة، ونزول التَّشريعات، وأصبح للتِّجارة علمٌ، وفقهٌ، ومبادئ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: «لا يبيعُ في سوقنا إلا مَنْ تفقَّه في الدِّين».
إنَّ للأسواق في الإسلام مكانةً عاليةً، ومنزلةً ساميةً؛ وذلك نظراً لأهمِّيتها الماليَّة والاقتصاديَّة في حياة النَّاس؛ حيث إنَّها موضع التَّعامل، والمبادلات فيما بينهم، وعن طريقه يحصل كلُّ فردٍ على أموره المعيشية، وحاجته الضَّروريَّة، ومستلزماته الخاصَّة والعامَّة، ولذلك حظي السُّوق الإسلاميُّ بالتَّوجيهات النَّبويَّة.
ولقد تحدَّث القرآن الكريم عن افةٍ اقتصاديةٍ، واجتماعيَّةٍ خطيرةٍ، أثَّرت على دين النَّاس، ودنياهم، ألا وهي نقص الميزان، والمكيال، فقد كان هذا العمل يخالف، ويناقض النَّهج الَّذي أنزله الله من عنده؛ ليتعامل الناس بمقتضاه، ذلك النَّهج هو العدل في كلِّ شيءٍ. قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [الشورى: 17] والميزان: هو العدل، والموازين، والمكاييل الاتٌ لإقامة العدل؛ ولذا أمر الله بإيفائها، ونهى عن نقصها.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الآنعام: 152]، وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [الإسراء: 35] .
وتوعَّد اللهُ المطفِّفين بالويل، فقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَومٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 1 - 5] .
فتعلَّم الصَّحابة رضي الله عنهم من قصَّة شعيبٍ: أنَّ نقص الميزان، والمكيال تعطيلٌ للمنهج الإلهيِّ، ومخالفةٌ للأوامر الرَّبَّانيَّة، وتعرُّضٌ لسخط الجبَّار، وعذابه في الدُّنيا، والآخرة.
إنَّ هذا العمل له ضَرَرهُ على دنيا النَّاس؛ لأنَّه يجلب الشِّدَّة بدل الرَّخاء، وغلاء الأسعار بدل رخصها، ويؤدِّي إلى إضرارٍ بمعايش النَّاس؛ ولذلك حاربته الدَّولة الإسلاميَّة في المدينة.
إنَّ نقص المكيال، والميزان، كان من الأسباب التي أدَّت إلى هلاك قوم شعيبٍ، قال تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [هود: 95] .
كانت قصَّة شعيبٍ مع قومه من ضمن المنهاج النَّبويِّ في تربية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ ولذلك فهموا: أنَّ الآنحراف عن المنهج الرَّبانيِّ معناه الدَّمار، والهلاك، وأنَّ شموليَّة هذا الدِّين تدخل في شؤون حياتهم كافَّةً.
إنَّ المنهج الرَّبانيَّ، عالج المشكلة الاقتصاديَّة عن طريق القصص القرآنيِّ، لكي يتَّعظ النَّاس، ويعتبروا بِمَنْ مضى من الأقوام، ولم يترك الجانب التَّشريعيَّ التَّعبديَّ، الَّذي له أثرٌ في البناء التَّنظيميِّ التَّربويِّ، فقد كان المولى - عزَّ وجلَّ - يرعى هذه الأمَّة، وينقل خطاها؛ لكي تكون مؤهَّلةً لحمل الأمانة، وتبليغ الرِّسالة، ولا فرق في وسط هذه الدَّولة بين الأمور الصَّغيرة، والأمور الكبيرة؛ لأنَّها كلَّها تعمل لرفع بنائها، ووقوفها شامخةً أمام الأعاصير الَّتي تحتمل مواجهتها؛ ومن هذه الشعائر التعبُّديَّة التي فُرِضت في السَّنتين الأوليين من الهجرة: الزَّكاة، وزكاة الفطر، والصِّيام، ونلاحظ سنَّة التَّدرُّج في بناء المجتمع المسلم، ومراعاته لواقع النَّاس، والانتقال بهم نحو الأفضل؛ دون اعتسافٍ، أو تعجيلٍ، بل كلُّ شيءٍ في وقته.
يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ