عَقْدُ الصِّدِّيق الألوية للقادة وتوجيه الجيوش:
جيوش الشام الفاتحة بين تعدد قادتها المجاهدين ووحدة هدفها النبيل
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الثالثة والأربعون
عزم الصِّدِّيق على تسيير الجيوش لبلاد الشَّام، فدعا النَّاس إِلى الجهاد، وعقد الألوية لأربعة جيوش أرسلها لفتح الشام، وهي:
1ـ جيش يزيد بن أبي سفيان:
وهو أوَّل الجيوش الَّتي تقدَّمت إِلى بلاد الشام، وكانت مهمَّته الوصول إِلى دمشق، وفتحها، ومساعدة الجيوش الأربعة عند الضَّرورة، وكان جيش يزيد أوَّل الأمر ثلاثة الاف ثمَّ عزَّزه الخليفة بالإِمدادات حتَّى صار معه بحدود السَّبعة الاف رجلٍ، وقبل رحيل جيش يزيدٍ أوصاه الخليفة أبو بكرٍ وصيَّةً بليغةً عالية المستوى، تشتمل على حِكَمٍ باهرةٍ في مجالي الحرب، والسِّلم، وشيَّعه ماشياً، وأوصاه بما يأتي:
إِنِّي قد ولَّيتك لأبلوك، وأجرِّبك، وأخرِّجك، فإِن أحسنت؛ رددتك إِلى عملك، وزدتك، وإِن أسأت؛ عزلتك، فعليك بتقوى الله فإِنَّه يرى من باطنك مثل الَّذي من ظاهرك، وإِنَّ أولى النَّاس بالله أشدُّهم تولِّياً له، وأقرب النَّاس من الله أشدُّهم تقرُّباً إِليه بعمله، وقد ولَّيتك عمل خالدٍ، فإِيَّاك وعِبِّيَّة الجاهليَّة، فإِنَّ الله يبغضها، ويبغض أهلها، وإِذا قدمت على جندك؛ فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير، وَعِدْهم إِيَّاه، وإِذا وعظتهم فأوجز، فإِنَّ كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، وأصلح نفسك يصلح لك النَّاس، وصلِّ الصَّلوات لأوقاتها بإِتمام ركوعها وسجودها، والتَّخشُّع فيها، وإِذا قدم عليك رسلُ عدوِّك، فأكرمهم، وأقْلل لُبثهم حتَّى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينَّهم، فيروا خلَلَك، ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع مَنْ قِبَلَك من محادثتهم، وكن أنت المتولِّي لكلامهم، ولا تجعل سرَّك لعانيتك، فيخلط أمرك، وإِذا استشرت؛ فاصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تَخْزن عن المشير خبرك، فَتُؤْتى من قبل نفسك، واسمر باللَّيل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبَدِّدْهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علمٍ منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه؛ فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إِفراطٍ، وأعقب بينهم باللَّيل، واجعل النَّوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإِنها أيسرهما لقربها من النَّهار، ولا تخف من عقوبة المستحقِّ، ولا تلجَّنَّ فيها، ولا تسرع إِليها، ولا تتَّخذ لها مدفعاً، ولا تغفل عن أهل عسكرك، فتفسده، ولا تجسَّس عليهم، فتفضحهم، ولا تكشف النَّاس عن أسرارهم، واكتف بعانيتهم، ولا تجالس العابثين، وجالس أهل الصِّدق والوفاء، واصدق اللِّقاء، ولا تجبن؛ فيجبن النَّاس، واجتنب الغلول؛ فإِنَّه يقرِّب الفقر، ويدفع النَّصر، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصَّوامع، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، قال ابن الأثير: وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعاً لولاة الأمر.
ومن فوائد هذه الوصيَّة:
- أنَّ الولايات والمناصب ليست حقاً ثابتاً لأصحابها، وإِنَّما بقاؤهم فيها مرهونٌ بالإِحسان، والنَّجاح في العمل، ومن واجب المسؤول الأعلى أن يَعْزلهم إِذا أساؤوا، وإِن هذا الشُّعور يدفع صاحب العمل إِلى مضاعفة الجهد في بذل الطَّاقة ليصل إِلى مستوى أعلى من النَّجاح في العمل، أمَّا إِذا ضمن البقاء فإِنَّه قد يميل إِلى الكسل والاشتغال بمتاع الدُّنيا فيخل بمسؤوليته، ويعرِّض مَنْ تحت ولايته إِلى أنواعٍ من الفساد، والفوضى، والنِّزاع.
- إِنَّ تقوى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ هي أهم عوامل النَّجاح في العمل؛ لأنَّ الله تعالى مطَّلعٌ على ظاهر أعمال النَّاس وباطنهم، فإِذا اتَّقوه في باطنهم؛ فحريٌّ بهم أن يتَّقوه في ظاهرهم، وبذلك يتجنَّب الوالي كلَّ مظاهر الفساد، والإِفساد؛ الَّتي تكون عادةً من الاستجابة للعواطف الجامحة؛ الَّتي لا تلتزم بتقوى الله تعالى.
- التَّحذير من التعصُّب للآباء والأجداد، والأقوام، فإِن التعصُّب لذلك قد يحمل الإِنسان على الانحراف عن الطَّريق المستقيم؛ إِذا كان ما عليه الآباء والأجداد مخالفاً للاستقامة، إِضافةً إِلى أنَّه يضعف من الانتماء للرَّابطة الإِسلاميَّة الوحيدة، وهي الأخوَّة في الله تعالى.
- الإِيجاز في الموعظة فإِنَّ كثير الكلام ينسي بعضُه بعضاً، فيضيع المقصود، ويغلب على السَّامع الإِعجاب ببلاغة المتكلِّم إِن كان بليغاً عن استيعاب ما يقول، والاستفادة من مواعظه، وإِن لم يكن بليغاً؛ فإِنَّ الملل يأخذ بالسَّامع فلا يعي ما يقول المتكلِّم.
- إِذا أصلح المسؤول نفسه، وتفقَّد عيوبه، وجعل من نفسه نموذجاً صالحاً للقدوة الحسنة، فإِنَّ ذلك يكون سبباً في صلاح مَنْ هم تحت رعايته.
- الاهتمام بإِقامة الصَّلاة كاملةً مظهراً، ومخبَراً، مظهَراً من ناحية إِكمال أقوالها، وأفعالها، ومخبَراً من ناحية الخشوع فيها، وحضور القلب مع الله تعالى، فإِنَّ هذه الصَّلاة الكاملة يقام بها ذكر الله في الأرض، وتهذِّب السُّلوك، وتُقَوِّي القلوب، وتبعث على ارتياح النُّفوس، وتعتبر ملاذاً للمسلم عند الشَّدائد.
- إِكرام رسل العدوِّ إِذا قدموا مع الاحتراس منهم، وعدم تمكينهم من معرفة واقع الجيش الإِسلاميِّ، فإِكرامهم نوعٌ من الدَّعوة إِلى الإِسلام فيما إِذا عرف العالم ما يتحلَّى به المسلمون من مكارم الأخلاق، ولكن لا يصل هذا الإِكرام إِلى حدِّ اطلاعهم على بطانة أمور المسلمين، بل ينبغي اطلاعهم على قوَّة جيش المسلمين؛ ليُرهبوا بذلك أقوامهم.
- الاحتفاظ بالأسرار، وعدم التَّهاون بإفشائها، خاصَّةً فيما يتعلَّق بأمور المسلمين العامَّة، فإِنَّ الحكيم يستطيع التَّصرُّف في الأمور؛ وإِن تغيَّرت وجوهها، ما دام سرُّه حبيساً في ضميره، فإِذا أفشاه؛ اختلطت عليه الأمور، ولم يستطع التحكُّم فيها.
- إِتقان المشورة أهمُّ من النَّظر في نتائجها، فإِن المستشار وإِن كان حصيف الرأي، ثاقب الفكر؛ فإِنَّه لا يستطيع أن يفيد مَنِ استشاره حتَّى ينكشف له أمره بغاية الوضوح، فإِذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضيَّة، فإِنَّه يكون قد جنى على نفسه، حيث قد يتضرَّر بهذه المشورة.
- أنَّ على القائد وكلِّ مسؤولٍ أن يكون مخالطاً لمن ولي أمرهم على مختلف طبقاتهم؛ ليكون دقيق الخبرة بأمورهم، وفي هذا أكبر العون له على تصوُّر مشكلاتهم والمبادرة بإِيجاد الحلول لها، أما المسؤول الَّذي يعيش في عزلةٍ، ولا يختلط إِلا بأفرادٍ من كبار رَعيته، فإِنَّه لا يصل إِليه من المعلومات إِلا ما كان من طريق هؤلاء، وقد لا يكشفون له الأمور بكلِّ تفصيلاتها، وقد يحلِّلون له الأمور على غير وجهها الصَّحيح.
- الاهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصَّةً في مكامن الخطر، واختيار الحرَّاس الأمناء من ذوي النباهة، وعدم وضع الثِّقة الكاملة بهم، بل لا بدَّ من الرَّقابة عليهم حتَّى لا يُؤتى المسلمون مِنْ قِبَلهم.
- أن يسلك المسؤول في عقاب المخالف مسلكاً وسطاً، فلا يتهاون، فيترك عقوبة المستحقِّ، فإِنَّ ذلك يُجَرِّئُه على مزيد من المخالفة، ويجرئ غيره على ارتكاب المخالفات، فتسود الفوضى، وينفلت الأمر، ولا يشتدُّ في العقوبة، فيُنَفِّرَ الرَّعية، ويدفعهم إِلى السخط، والتَّحزُّب، بل تكون عقوبته بحكمةٍ، واتِّزان، وبعد النَّظر، والتروِّي بحيث تؤدِّي غرضها التَّربويَّ بدون إِثارة ضجَّةٍ، ولا دفعٍ إِلى النَّقد والسخط.
- أن يكون لدى المسؤول يقظةٌ، وانتباهٌ لكلِّ ما يجري في حدود المسؤوليَّة المناطة به، حتَّى يشعر أفراد الرَّعيَّة بأنَّ هناك اهتماماً بأمورهم، فيزيد المحسن إِحساناً، ويقتصر المسيء عن الإِساءة، ولكن بدون تجسُّسٍ عليهم، فإِن ذلك يعتبر فضيحةً لهم، وقد ينقطع بذلك خيط العلاقة الَّذي يربط المسؤول بأفراد رعيته من المودَّة، والإِعجاب، والشُّكر على الجميل، وهذا الخيط ما دام قائماً؛ فإِنَّه يمنع أصحاب الجنوح من ارتكاب المخالفات؛ الَّتي تفسد المجتمع، وتحدث الفوضى، فإِذا انقطع، ولم يكن هناك عاصمٌ من تقوى الله تعالى؛ فإِنَّ أهمَّ الحواجز الَّتي تحول دون الانطلاق وراء الشهوات تكون قد تحطَّمت، ويصعب بعد ذلك علاج الأمور، لأنَّها تحتاج إِلى قوَّةٍ رادعةٍ، وهذه لها سلبيَّاتها المعروفة .
- أن يحرص المسؤول على مجالسة أهل الصِّدق، والوفاء، والعقول الرَّاجحة، وإِن سمع منهم ما يكره أحياناً من النَّقد، والتَّوجيه؛ فإِنَّ ذلك يعود عليه، وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنَّفع، وألا يجالس أصحاب اللَّهو، والأهداف الدنيويَّة؛ فإِن هؤلاء وإِن أنس بكلامهم، وثنائهم؛ فإِنَّهم يحولون بينه وبين التَّفكير في الأمور الجادَّة، فلا يستفيق بعد ذلك إِلا والنَّكبات قد حلَّت به، وبمن ولي أمورهم.
- أن يصدُق القائد في لقاء الأعداء وألا يجبُن، فإِنَّ جُبنه يسري على جنده، فيقع بذلك الفشل، والهزيمة، وفي غير الحرب أن يكون المسؤول شجاعاً في مواجهة المواقف، وألا يضعف، فيسري ضعفه على مَنْ هم تحت إِدارته من العاملين، فيقلُّ بذلك مستوى الأداء، ويضعف الإنتاج.
- أن يتجنَّب القائد الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، هذا في مجال الحرب، وفي مجالات السِّلم أن يتجنَّب المسؤول أيَّة استفادةٍ دنيويَّة من عمله لا تحلُّ له شرعاً، مثل أخذ الهدايا الَّتي يقصد بها من دفعها الاستفادة من المسؤول في مجانبة الحقِّ، فإِنَّ ذلك من الغلول، والغلول كما جاء في هذهِ الوصيَّة يقرِّب إِلى الفقر، ويدفع النَّصر.
- ومن هذه الفوائد تبيَّن لنا عظمة هذه الوصيَّة؛ الَّتي أوصى بها أبو بكرٍ أحد قوَّاده، وهي تبيِّن لنا: أنَّه كان يعيش بفكره مع قضايا المسلمين، وأنَّه كان يتصوَّر ما قد يواجه قوَّاده، فيحاول تزويدهم بما ينفعهم في تلافي الوقوع في المشكلات، وحلِّها إِذا وقعت، وهذه الوصية وأمثالها تسجِّل إِضافةً جديدةً لمواقف أبي بكرٍ المتعدِّدة الأنواع، فإِذا تأمَّلت إِدارته للحكم؛ وجدت رجلاً بارعاً في أمور السِّياسة، وإِذا رأيت توجيهه للقادة العسكريين؛ تجده رجلاً بارعاً في شؤون الحرب، وكأنَّه مع القادة في الميادين، وإِذا رأيت رحمته، وتأليفه للقلوب؛ رأيت رجلاً بارعاً في الدَّعوة إِلى الله تعالى، فهو الرَّجل الرَّحيم بالمؤمنين، الرَّافع لشأن أهل البلاد، والصِّدق منهم، الخبير بأهل الكفاءة والقدرة، القويُّ الحازم على أعداء الله من المنافقين، والكافرين.
2ـ جيش شرحبيل بن حسنة:
حدَّد أبو بكر الصِّدِّيق لمسير شرحبيل ثلاثة أيام بعد مسير يزيد بن أبي سفيان، فلمَّا مضى اليوم الثالث، ودَّع أبو بكر شرحبيل، وقال له: يا شرحبيل! ألم تسمع وصيتي ليزيد بن أبي سفيان؟ قال: بلى! قال: فإِنِّي أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصالٍ أغفلت ذكرهنَّ ليزيد: أوصيك بالصَّلاة في وقتها، وبالصَّبر يوم البأس حتَّى تظفر، أو تُقتل، وبعيادة المرضى، وبحضور الجنائز، وذكر الله كثيراً على كلِّ حال. فقال شرحبيل: الله المستعان، وما شاء الله أن يكون كان. وكان جيش شرحبيل ما بين ثلاثة الاف إِلى أربعة الاف، وأمره أن يسير إِلى تبوك، والبلقاء، ثمَّ بصرى، وهي اخر مرحلةٍ، وتقدَّم شرحبيل نحو البلقاء حيث لم يلق مقاومةً تذكر، وكان يسير على الجناح الأيسر لجيش أبي عبيدة والجناح الأيمن لجيش عمرو بن العاص في فلسطين، فأوغل في البلقاء حتَّى بلغ بصرى فأخذ يحاصرها، فلم يوفق في فتحها؛ لأنها كانت من المراكز الحصينة.
3ـ جيش أبي عبيدة بن الجرَّاح:
لمَّا عزم الصِّدِّيق على بعث أبي عبيدة بن الجرَّاح بجيشه؛ دعاه، فودَّعه، ثمَّ قال له: اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له، ثمَّ يعمل بما أُمر به: إِنَّك تخرج في أشراف النَّاس، وبيوتات العرب، وصلحاء المسلمين، وفرسان الجاهليَّة، كانوا يقاتلون إِذ ذاك على الحميَّة، وهم اليوم يقاتلون على الحسبة والنِّيَّة الحسنة. أَحْسِنْ صحبة مَنْ صحبك، وليكن النَّاس عندك
في الحقِّ سواءً، واستعن بالله، وكفى بالله معيناً، وتوكَّل على الله، وكفى بالله وكيلاً، اخرج من غدٍ إِن شاء الله. وكان جيشه يتراوح ما بين ثلاثة إِلى أربعة الاف مجاهدٍ، وهدف ذلك الجيش حمص، سار أبو عبيدة من المدينة مارّاً بوادي القرى، ثمَّ اطلع إِلى الحجر(مدن صالح) ثمَّ إِلى ذات منار، ثمَّ إِلى زيزا، ومنها إِلى مؤاب، فالتقى بقوَّةٍ للعدوِّ، فقاتلهم، ثمَّ صالحوه، فكان أوَّل صلحٍ عقد في الشَّام، ثمَّ واصل تقدُّمه نحو الجابية، وكان هذا الجيش الجناح الأيسر للجيش الأول، والجناح الأيمن للجيش الثَّاني، وكان في صحبة أبي عبيدة بن الجراح فارسٌ من فرسان العرب المشهورين، قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي، فأوصى به الصِّدِّيق أبا عبيدة قبل سفره، وقال له: إِنَّك قد صحبك رجلٌ عظيم الشَّرف، فارسٌ من فرسان العرب، ليس بالمسلمين غناء عن رأيه، ومشورته، وبأسه في الحرب، فأدنه، وألطفه، وأره أنَّك غير مستغنٍ عنه، ولا مستهينٍ بأمره، فإِنَّك تستخرج بذلك نصيحته لك، وجهده، وجدَّه على عدوِّك، ودعا أبو بكر قيس بن هبيرة، فقال: إِنِّي بعثتك مع أبي عبيدة الأمين؛ الَّذي إِذا ظُلم؛ لم يَظلم، وإِذا أسيء إِليه؛ غفر، وإِذا قُطع، وصل، رحيم بالمؤمنين، شديدٌ على الكافرين، فلا تعصينَّ له أمراً، ولا تخالفنَّ له رأياً، فإِنَّه لن يأمرك إِلا بخير، وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إِلا بتقوى الله، فقد كنَّا نسمع أنَّك شريفٌ ذو بأسٍ، سيِّدٌ مجرَّبٌ في زمان الجاهليَّة الجهلاء؛ إِذ ليس فيهم إِلا الإِثم، فاجعل بأسك، وشدَّتك، ونجدتك في الإِسلام على المشركين، وعلى مَنْ كفر بالله، وعبد معه غيره، فقد جعل الله في ذلك الأجر العظيم، والثَّواب الجزيل، والعزَّ للمسلمين .
فقال قيس بن هبيرة: إِن بقيتَ، وأبقاك الله؛ فسيبلغك عنِّي من حيطتي على المسلم، وجهدي على الكافر ما تحبُّ، ويسرُّك، ويرضيك. فقال له أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: افعل ذلك رحمك الله! قال: فلمَّا بلغ أبا بكر مبارزة قيس بن هبيرة البطرقين بالجابية وقتله إِيَّاهما؛ قال: صدق قيس، وبرَّ، ووفى.
ونلحظ: أنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ شحذ همَّة قيس بن هبيرة، وفجَّر طاقاته الكامنة في نفسه، واستخرج منه ما أمكن من طاقةٍ، وصرفها في حماية الإِسلام، والجهاد في سبيله، ولا شكَّ أنَّ الثَّناء على العظماء، والنُّبلاء بذكر فضائلهم يرفع من معنويَّاتهم، ويمنحهم قوَّةً عاليةً تدفعهم إِلى التَّضحية، والفداء.
4ـ جيش عمرو بن العاص:
وجَّه الصِّدِّيق عمرو بن العاص بجيشٍ إِلى فلسطين، وكان الصِّدِّيق قد خيَّره بين البقاء في عمله الَّذي أسنده إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يختار ما هو خيرٌ له في الدُّنيا والآخرة إِلا أن يكون الَّذي هو فيه أحبَّ إِليه. فكتب إِليه عمرو بن العاص: إِنِّي سهمٌ من سهام الإِسلام، وأنت بعد الله الرَّامي بها، والجامع لها، فانظر أشدَّها، وأخشاها، وأفضلها؛ فارم به. فلمَّا قدم المدينة أمره أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يخرج من المدينة، وأن يعسكر حتَّى يندب معه الناس، وقد خرج معه عددٌ من أشراف قريش، منهم: الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلمَّا أراد المسير؛ خرج معه أبو بكر يشيِّعه، وقال: يا عمرو! إِنَّك ذو رأي، وتجربةٍ بالأمور، وبصرٍ بالحرب، وقد خرجْتَ مع أشراف قومك، ورجالٍ من صلحاء المسلمين، وأنت قادمٌ على إِخوانك، فلا تالهم نصيحةً، ولا تدَّخر عنهم صالح مشورةٍ، فربَّ رأي لك محمودٌ في الحرب، مباركٌ في عواقب الأمور.
فقال عمرو بن العاص: ما أخلَقَني أن أصدِّق ظنَّك، وألا أُفَيِّلَ رأيك! وخرج عمرو بقوَّاته، وكان تعداده يتراوح من ستة إِلى سبعة الاف مجاهدٍ، وهدفها فلسطين، وسلكت طريقاً لساحل البحر الأحمر، حتَّى وادي عربة في البحر الميت، ونظَّم عمرو بن العاص قوَّة استطلاعٍ مؤلَّفةٍ من ألف مجاهد، ودفعها باتِّجاه محور تقدُّم الرُّوم، ووضع على قيادتها عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ واصطدمت هذه القوَّة بقوَّات الرُّوم، واستطاعت انتزاع النَّصر، وتمزيق قوَّة العدوِّ، وعادت ببعض الأسرى، فاستنطاقهم عمرو بن العاص، وعلم منهم: أنَّ جيش العدو بقيادة(رويس) يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم، وعلى ضوء المعلومات الجديدة؛ نظَّم عمرو قوَّاته، وشنَّ الرُّوم هجومهم، واستطاع المسلمون صدَّه، ونجحوا في ردِّ قوَّات الرُّوم، وبعد ذلك شنُّوا هجومهم المضادَّ، ودمَّروا قوَّة العدوِّ، وأرغموهم على الفرار، وترك ميدان المعركة، وتابع الفرسان المطاردة، وانتهت المعركة بسقوط ألوف القتلى من الرُّوم.
وأمر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كلَّ أميرٍ أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر، لِمَا لَحَظَ ذلك من المصالح، وكأنَّ الصِّدِّيق اقتدى في ذلك بنبيِّ الله يعقوب، حين قال لبنيه: {وَقَال يأبني لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ *} [يوسف: 67] .
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf