تأزُّم الموقف في بلاد الشام وخطط الصديق البديلة...
أحداث عسكرية ملهمة تعكس الحس الإستراتيجي للفاتحين
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الرابعة والأربعون
كانت الجيوش المكلَّفة بفتح بلاد الشام تلاقي صعوبةً في تنفيذ المهمَّات الموكلة إِليها، فقد كانت تواجه جيوش الإِمبراطورية الرُّومانيَّة؛ الَّتي تمتاز بقوَّتها، وكثرة عددها، وقد بنت الحصون، والقلاع للدِّفاع عن مراكز المدن، واستخدمت أسلوب الفراديس في تنظيم جيوشها، لقد كان للرُّوم في الشام جيشان كبيران أحدُهما في فلسطين، والآخر في أنطاكية، وتمركز هذان الجيشان في ستَّة مواضع على الشَّكل الآتي:
أـ أنطاكية: وهي عاصمة الشَّام في العهد الرُّومي.
ب ـ قنِّسرين: وتقع بين حماة وحلب على مسافة خمسة وعشرين كيلو متراً جنوبي غربي حلب، وهي حدود بلاد الشَّام الَّتي تحاذي فارس في الشَّمال الغربي.
ج ـ حمص: ويمتدُّ نفوذها العسكري حتى تدمر، وصحراء الشَّام، وهي حدود بلاد الشَّام؛ الَّتي تحاذي فارس في الشَّمال الشَّرقي.
دـ عمَّان: قاعدة البلقاء، وفيها قلعةٌ محصَّنةٌ.
هـ أجنادين: قاعدةُ الرُّوم العسكرية في جنوب فلسطين، وعلى حدود بلاد العرب الشَّرقية والغربيَّة، وعلى حدود مصر.
وقيساريَّة: في شمال فلسطين، وتبعد عن حيفا ثلاثة عشر كيلو متراً، ولا تزال أنقاضها قائمةً.
أمَّا مقرُّ القيادة العامَّة فهو أنطاكية، أو حمص، وعندما شهد قائد الرُّوم هرقل؛ الذي كان يشرف على الموقف بنفسه في(إِيليا) توغُّلَ الجيوش الإِسلامية؛ أصدر أوامره إِلى قوَّاته بالتَّوجُّه لتدمير هذه الجيوش، وكانت خطَّة مواجهة الجيوش الإِسلاميَّة كالآتي:
ـ يتراجع الرُّوم أمام المسلمين، ويتخلَّون لهم عن الحدود الشَّامية الحجازيَّة.
ـ تتجمَّع وحدات الجيش الأول في فلسطين بعد تقريرها بقيادة سرجون.
ـ تتجمع وحدات الجيش الثَّاني في أنطاكية بقيادة تيودور.
ـ تتحرَّك هذه الجيوش، وتهاجم أمراء الإِسلام الأربعة الواحد بعد الآخر، وذلك لتسهيل تصفية جيوش الإِسلام على انفرادٍ. وعلى أساس هذه الخطَّة الَّتي وضعها هرقل تحرَّكت جيوش الرُّوم، وحسب التَّرتيب الآتي:
ـ توجيه أخيه تذارف في تسعين ألفاً للقضاء على جيش عمرو بن العاص.
ـ توجيه ابن توذر إِلى يزيد بن أبي سفيان.
ـ توجيه البقار بن ننوس في ستين ألفاً إِلى جيش أبي عبيدة.
ـ توجيه الدارج نحو شرحبيل بن حسنة.
استطاع المسلمون الحصول على المعلومات الدَّقيقة عن هذه الجيوش، ونواياها بكلِّ تفاصيلها، وعن تفاصيل الخطَّة الرُّوميَّة التي كان قد وضعها هرقل لتدمير الجيوش الإِسلاميَّة كلٍّ على انفراد، وراسل قادةُ المسلمين الخليفةَ بالمدينة، فكتب أبو عبيدة إِلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ يخبره بما بلغه ممَّا جمع هرقل ملك الروم من الجموع، وهذا نصُّ كتاب أمين الأمَّة إِلى الصِّدِّيق: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، لعبد الله أبي بكرٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد إِليك الله الذي لا إِلـه إِلا هو، أما بعد: فإِنَّا نسأل الله أن يعزَّ الإِسلام وأهله عزّاً متيناً، وأن يفتح لهم فتحاً يسيراً، فإِنَّه بلغني أن هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى الشَّام تدعى أنطاكية، وأنَّه بعث إِلى أهل مملكته فحشرهم إِليه، وأنَّهم نفروا إِليه على الصَّعب والذَّلول، وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك، والسَّلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فكتب إِليه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، أما بعد: فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الرُّوم، فأمَّا منزله بأنطاكية فهزيمةٌ له، ولأصحابه، وفتحٌ من الله عليك وعلى المسلمين، وأما ما ذكرت من حشره لكم أهل مملكته، وجمعه لكم الجموع؛ فإِنَّ ذلك ما قد كنَّا وكنتم تعلمون: أنَّه سيكون منهم، وما كان قومٌ ليدعوا سلطانهم، ويخرجوا من ملكهم بغير قتالٍ، وقد علمتُ والحمد لله! قد غزاهم رجالٌ كثير من المسلمين، يحبُّون الموت حبَّ عدوِّهم للحياة، ويرجون من الله في قتالهم الأجر العظيم، ويحبُّون الجهاد في سبيل الله أشدَّ من حبِّهم أبقار نسائهم، وعقائل أموالهم، الرَّجل منهم عند الفتح خيرٌ من ألف رجلٍ من المشركين، فالقهم بجندك، ولا تستوحش لمن غاب عنك من المسلمين، فإِنَّ الله معك، وأنا مع ذلك مُمِدُّكَ بالرِّجال، حتَّى تكتفي، ولا تريد أن تزداد ـ إِن شاء الله ـ والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
وكتب يزيد بن أبي سفيان إِلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بنفس مضمون كتاب أبي عبيدة بن الجراح، وردَّ الصِّدِّيق على يزيد ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ وهذا نصُّ الجواب:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، أمَّا بعد: فقد بلغني كتابك، تذكر فيه تحوُّل ملك الروم إِلى أنطاكية، وأنَّ الله ألقى الرُّعب في قلبه من جموع المسلمين، فإِنَّ الله ـ وله الحمد ـ قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرُّعب، وأمدَّنا بملائكته الكرام، وإِنَّ ذلك الدِّين الذي نصرنا الله به بالرُّعب، هو هذا الدين الذي ندعو الناس إِليه اليوم، فوربِّك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين، ولا مَنْ يشهد أن لا إِله إِلا الله كمن يعبد معه الهةً اخرين ويدين بعبادة الهةٍ شتَّى، فإِذا لقيتموهم؛ فانهد إِليهم بمن معك، وقاتلهم فإِنَّ الله لن يخذلك، وقد نبأنا الله تبارك وتعالى: أنَّ الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإِذن الله، وأناعم ذلك مُمدُّك بالرِّجال في إِثر الرِّجال حتَّى تكتفوا، ولا تحتاجوا إِلى زيادة إِنسان ـ إِن شاء الله ـ والسَّلام عليك، ورحمة الله! وبعث الصِّديق بهذا الكتاب مع عبد الله بن قُرْط المثالي، حتَّى قدم على يزيدٍ، فقرأه على المسلمين، ففرحوا به، وسُرُّوا.
وجاء كتاب من عمرو بن العاص بخصوص جموع الرُّوم، وردَّ عليه الصديق، فقال: سلامٌ عليك، أما بعد: فقد جاءني كتابُك تذكر ما جمعت الرُّوم من الجموع، وإِنَّ الله لم ينصرنا مع نبيِّه صلى الله عليه وسلم بكثرة جنودٍ، وقد كنَّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إِلا فرسان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل، وكنا يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فرسٌ واحدٌ، كان رسول الله يركبه ولقد كان يظهرنا، ويعيننا على مَنْ خالفنا، واعلم يا عمرو! أنَّ أطوع النَّاس لله أشدُّهم بغضاً للمعاصي، فأطع الله، ومر أصحابك بطاعته.
خروج هاشم بن عتبة بن أبي وقاصٍ إِلى الشَّام:
وشرع الصِّديق في إِمداد الجيوش الإِسلاميَّة ببلاد الشَّام بالرِّجال، والسِّلاح، والخيول وما يحتاجونه، ودعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وقال له: يا هاشم! إِنَّ من سعادة جَدِّكَ ووفاء حظِّك أنَّك أصبحت ممَّن تستعين به الأمَّة على جهاد عدوِّها من المشركين، وممَّن يثق الوالي بنصيحته، ووفائه، وعفافة، وبأسه، وقد بعث إِليَّ المسلمون يستنصرون على عدوِّهم من الكفَّار، فسر إِليهم فيمن تبعك فإِنِّي نادبٌ النَّاس معك، فاخرج حتَّى تقدم على أبي عبيدة، أو يزيد؟ قال: لا، بل على أبي عبيدة! قال: فأقدم على أبي عبيدة.
وقام أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ في النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال:
أمَّا بعد: فإِنَّ إِخوانكم من المسلمين معافون، مدفوعٌ عنهم، مصنوعٌ لهم، وقد ألقى الله الرُّعب في قلوب عدوِّهم منهم، وقد اعتصموا بحصونهم، وأغلقوا أبوابها دونهم عليهم، وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الرُّوم من بين أيديهم حتَّى نزل قريةً من قرى الشام في أقصى الشَّام، وقد بعثوا إِليَّ يخبرونني: أنَّه قد وجه إِليهم هرقل جنداً من مكانه ذلك، فرأيت أن أمدَّ إِخوانكم المسلمين بجندٍ منكم يشددِ الله بهم ظهورهم، ويكبت بهم عدوَّهم، ويلقي بهم الرُّعب في قلوبهم، فانتدبوا ـ رحمكم الله! ـ مع هاشم بن عتبة بن أبي وقَّاصٍ، واحتسبوا في ذلك الأجر والخير، فإِنَّكم إِن نُصرتم؛ فهو الفتح، والغنيمة، وإِن تهلكوا فهي الشَّهادة، والكرامة.
ثمَّ انصرف أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ إِلى منزله، ومال النَّاس على هاشمٍ؛ حتَّى كثروا عليه، فلمَّا أتمُّوا ألفاً؛ أمره أبو بكر أن يسير، فجاءه فسلَّم عليه، وودَّعه، فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: يا هاشم! إِنَّما كنَّا ننتفع من الشَّيخ الكبير برأيه، ومشورته، وحسن تدبيره، وكنَّا ننتفع من الشَّباب بصبره، وبأسه، ونجدته، وإِنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد جمع لك الخصال كلَّها، وأنت حديث السِّنِّ، مستقبل الخير، فإِذا لقيت عدوَّك؛ فاصبر، وصابر، واعلم أنَّك لا تخطو خطوةً، ولا تنفق نفقةً، ولا يصيبك ظمأٌ، ولا نصبٌ، ولا مخمصةٌ في سبيل الله إِلاَّ كتب الله به عملاً صالحاً {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *} [التوبة: 120].
فقال هاشم: إِن يرد الله بي خيراً؛ يجعلني كذلك، وأنا أفعل، ولا قوَّة إِلا بالله! وأنا أرجو إِن أنا لم أُقْتَل أن أقْتُل، ثمَّ أقْتل إِن شاء الله. فقال له عمُّه سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: يأبن أخي! لا تطعنَنَّ طعنةً، ولا تضربنَّ ضربةً إِلاَّ وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنَّك خارجٌ من الدُّنيا رشيداً، وراجعٌ إِلى الله قريباً، ولن يصحبك من الدُّنيا إِلى الآخرة إِلا قدمُ صدق قدَّمته، أو عملٌ صالحٌ أسلفته. فقال: أيْ عم، لا تخافنَّ منِّي غير هذا، إِنِّي إِذاً لمن الخاسرين إن جعلت حلِّي، وارتحالي، وغدوِّي، ورواحي، وسيفي، وطعني برمحي، وضربي بسيفي رياءً للناس. ثمَّ خرج من عند أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فلزم طريق أبي عبيدة، حتَّى قدم عليه، فتباشر بمقدمه المسلمون، وسُرُّوا به.
خروج سعيد بن عامر إِلى الشَّام:
وبعد ذهاب هاشمٍ بن عتبة بمدَّةٍ أمر أبو بكر بلالاً، فنادى في النَّاس ألا انتدبوا أيُّها المسلمون مع سعيد بن عامر بن حذيمٍ إِلى الشَّام! فانتدب معه سبعمئة رجلٍ في أيامٍ يسيرةٍ، فلمَّا أراد سعيد بن عامر الشُّخوص بالنَّاس؛ أتى بلالٌ أبا بكرٍ، فقال: يا خليفة رسول الله! إِن كنت إِنَّما أعتقتني لأقيم معك، وتمنعني ممَّا أرجو لنفسي فيه الخير؛ أقمت معك، وإِن كنت إِنَّما أعتقتني لله لأملك نفسي، وأضرب فيما ينفعني فخلِّ سبيلي حتَّى أجاهد في سبيل ربِّي، فإِن الجهاد أحبُّ إِليَّ من المقام! فقال له أبو بكر: أمَّا إِذا كان هواك في الجهاد، فلم أكن لآمرك بالمقام، إِنَّما كنت أريدك للأذان، وإِنِّي لأجد لفراقك وحشةً يا بلال! فما بدَّ من التَّفرُّق، فرقةً لا لقاء بعدها أبداً حتَّى يوم البعث، فاعمل عملاً صالحاً يا بلال! يكن زادك من الدُّنيا، ويذكرك الله به ما حييت، يحسن لك به الثَّواب إِذا توفِّيت، فقال بلال: جزاك الله من وليِّ نعمةٍ، وأخٍ في الإِسلام خيراً، فوالله ما أمرك لنا بالصَّبر على طاعة الله، والمداومة على الحقِّ والعمل الصَّالح ببدعٍ، وما أريد أن أُؤذِّن لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ خرج بلالٌ مع سعيد بن عامر بن حذيم، وكان أبو بكر قد أمر سعيد بن عامر أن يسير حتَّى يلحق بيزيد بن أبي سفيان، فسار حتَّى لحقه، فشهد معه وقعة العَرَبة، والدَّائنة.
وكانت وفود الجهاد تتوافد على المدينة، ويقوم الصِّدِّيق بتوجيهها إِلى الجبهات، وكانت بعض الوفود من أهل القرى فيهم جهلٌ، وجفاءٌ، فكان أهل المدينة من صحابةٍ وتابعين يحتملون أذى بعض الوفود الَّذين لم يتلقَّوا تربيةً إِسلاميَّة كافيةً، ويرفعون أمر ما يلاقونه منهم إِلى خليفة رسول الله، ولم يذكر: أنَّه حصل نزاع بينهم مع كثرة الوفود الَّتي وفدت على المدينة، وكان أبو بكر الصِّدِّيق قد ناشد المجتمع المدنيَّ، وقال لهم: نشدتك الله امرأً مسلماً سمع نشدي لما كفَّ عن هؤلاء القوم، وَمَنْ رأى لي عليه حقَّاً فليحتمل ذرب ألسنتهم، وعجلةً يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحدَّ، فإِنَّ الله مهلك بهؤلاء أعداءنا جموع هرقل، والرُّوم، وإِنَّما هم إِخوانكم فإِن كانت منهم عجلةٌ على أحدٍ منكم فليحتمل ذلك، ألم يكن أصوب في الرأي وخيراً في المعاد من أن يُنتصر منهم؟
قال المسلمون: بلى!
قال: فإِنَّهم إِخوانكم في الدِّين، وأنصاركم على الأعداء، ولهم عليكم حقٌّ فاحتملوا ذلك لهم، ثمَّ نزل مِنْ على المنبر.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf