الأربعاء

1446-04-13

|

2024-10-16

مقدمات فتوحات الشام زمن الصديق...

الشورى بين المسلمين ودورها في إقرار الجهاد

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة : الثانية والأربعون

كان اهتمام المسلمين بالشَّام منذ زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث كتب إِلى هرقل عظيم الروم كتاباً يدعوه إِلى الإِسلام، وكتب صلى الله عليه وسلم إِلى الحارث بن أبي شمْر الغسَّاني ملك غسَّان بالبلقاء من أرض الشَّام وعامل قيصر على العرب يدعوه إِلى الإِسلام، فأدركته العزَّة بالإِثم، فأراد أن يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أمرٌ من قيصر ينهاه عن ذلك، وأرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً بقيادة زيد بن حارثة، فاستشهد في مؤتة هو، وجعفر بن أبي طالبٍ، وعبد الله بن رواحة، وتولَّى بعدهم خالد بن الوليد الَّذي قام بمناورةٍ عسكريَّةٍ ناجحةٍ تركت أثراً بعيداً في نفوس أهالي تلك المناطق، ونستطيع أن نقول: إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بتلك الغزوة وضع أسساً، وقطع خطوةً نحو القضاء على دولة الرُّوم المتجبِّرة في بلاد الشَّام، وهزَّ هيبتها من قلوب العرب، وحمَّس المسلمين للاستعداد المعنويِّ والماديِّ لإِتمام بقيَّة الخطوات المباركة، بل قاد غزوة تبوك بنفسه  صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال الاحتكاك الميدانيِّ استطاع المسلمون أن يتعرَّفوا على حقيقة الرُّوم، ومعرفة أساليبهم في القتال، وأعطت تلك الغزوات الفرصة لأهالي بلاد الشَّام على أن يتعرَّفوا على أصول هذا الدِّين، ومبادئه، وأهدافه، فامن كثيرٌ من أهالي تلك البلاد، واستمرَّ الصِّدِّيق على المنهج الَّذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أصرَّ بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على إِنفاذ جيش أسامة، ولما عقد الصِّدِّيق الألوية من ذي القصَّة عقد منها لواءً لخالد بن سعيد بن العاص ووجَّهه إِلى مشارف الشَّام، ثمَّ أمره أن يكون رِدءاً للمسلمين بتيماء، لا يفارقها إِلا بأمره، ولا يقاتل إِلا من قاتله، فبلغ خبره هرقل ـ ملك الروم ـ فجهز جيشاً من العرب التَّابعين للرُّوم من بَهراء، وشليح، وكلب، ولخم، وجُذام، وغسَّان، فسار إِليهم خالد بن سعيد، فلقيهم على منازلهم، فافترقوا، وأرسل هو لأبي بكرٍ بالخبر، فكتب إِليه يأمره بالإِقدام . وأن يزحف على الرُّوم قبل تنظيم صفوفهم، ونصحه أن يحافظ على خطِّ رجعته وألا يتوغَّل كثيراً في بلاد العدوِّ، وجاء في جواب الخليفة له: أن(أقدم، ولا تحجم، واستنصر بالله)، فتقدَّم خالدٌ حتَّى بلغ القسطل في طريق البحر الميت فهزم جيشاً من الرُّوم على الشاطئ الشَّرقي للبحر، ثمَّ تابع مسيرته، عند ذلك هاج الرُّوم، فجمعوا قوات تزيد على ما جمعوه في تيماء، ورأى خالدٌ تجمُّعهم فكتب إِلى الخليفة يستمدُّه؛ ليتابع تقدُّمه، فبعث إِليه عكرمة بن أبي جهلٍ بجيش البدال كما بعث إِليه الوليد بن عقبة بجموعٍ أخرى، فلمَّا وصلت هذه القوات إِلى خالد بن سعيد أمر بالهجوم على الرُّوم، وأخذ طريقه إِلى مرج الصفر .

وانحدر القائد الرُّومي ماهان بجيشه يستدرج جيوش المسلمين الَّتي اتجهت إِلى جنوب البحر الميت، ووصلت إِلى مرج الصفر شرقي بحيرة طبرية، واغتنم الرُّوم على المسلمين الفرصة، وأوقعوا بهم الهزيمة، وصادف باهان سعيد بن خالد بن سعيد في كتيبة من العسكر، فقتلهم، وقتل سعيداً في مقدِّمتهم، وبلغ خالد مقتل ابنه، ورأى نفسه قد أحيط به، فخرج هارباً في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل، وقد نجح عكرمة في سحب بقيَّة الجيش إِلى حدود الشَّام.

أولاً: عزم أبي بكرٍ على غزو الرُّوم ومبشِّراتٌ في الطَّريق:

كان أبو بكر يفكِّر في فتح الشام، ويجيل النَّظر، ويقلِّب الرأي في ذلك، وبينما كان الصِّدِّيق مشغولاً بذلك الأمر جاءه شرحبيل بن حسنة أحد قوَّاد المسلمين في حروب الردَّة، فقال: يا خليفة رسول الله! أتحدِّث نفسك أنَّك تبعث إِلى الشام جنداً؟ فقال: نعم! قد حدثت نفسي بذلك، وما أطلعتُ عليه أحداً، وما سألتني عنه إِلا لشيء. قال: أجل إِنِّي رأيت يا خليفة رسول الله! فيما يرى النَّائم كأنَّك تمشي في الناس فوق خَرْشفة من الجبل ـ يعني: مسلكاً وعراً ـ حتَّى صعدت قُنَّةً من القنَّات العالية، فأشرفت على النَّاس ومعك أصحابك، ثم إِنَّك هبطت من تلك القنَّات إِلى أرضٍ سهلة دمثةٍ ـ يعني: لينة ـ فيها الزَّرع، والقرى، والحصون، فقلت للمسلمين: شنُّوا الغارة على أعداء الله، وأنا ضامنٌ لكم بالفتح، والغنيمة، وأنا فيهم معي رايةٌ، فتوجَّهت بها إِلى أهل قريةٍ، فسألوني الأمان، فأمَّنتهم، ثمَّ جئت، فأجدك قد انتهيت إِلى حصنٍ عظيمٍ، ففتح الله لك، وألقوا إِليك السَّلَم، ووضع الله لك مجلساً، فجلست عليه، ثمَّ قيل لك: يفتح الله عليك، وتُنْصَرُ، فاشكر ربَّك واعمل بطاعته، ثمَّ قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا *} [النصر: 1 ـ 3].

ثمَّ انتبهت! فقال له أبو بكر: نامت عينك، خيراً رأيت، وخيراً يكون إِن شاء الله. ثمَّ قال: بشَّرت بالفتح، ونعيت إِليَّ نفسي، ثمَّ دمعت عينا أبي بكر، وقال: أما الخرشفة التي رأيتنا فيها حتَّى صعدنا إِلى القنَّة العالية، فأشرفنا على الناس، فإِنَّا نكابد من أمر هذا الجند والعدوِّ مشقَّةً، ويكابدونه، ثمَّ نعلو بعد، ويعلو أمرنا. وأما نزولنا من القنَّة العالية إِلى الأرض السَّهلة الدَّمثة، والزَّرع، والعيون، والقرى، والحصون؛ فإِنَّا ننزل إِلى أمرٍ أسهل ممَّا كنَّا فيه من الخصب، والمعاش.

وأما قولي للمسلمين: شنُّوا على أعداء الله الغارة فإِنِّي ضامنٌ لكم الفتح والغنيمة، فإِنَّ ذلك دُنُوُّ المسلمين إِلى بلاد المشركين، وترغيبي إِيَّاهم على الجهاد، والأجر والغنيمة؛ الَّتي تُقسم لهم، وقبولهم. وأمَّا الرَّاية التي كانت معك، فتوجَّهت بها إِلى قريةٍ من قراهم، ودخلتها، فاستأمنوا، فأمَّنتهم، فإِنَّك تكون أحد أمراء المسلمين، ويفتح الله على يديك. وأمَّا الحصن الذي فتح الله لي فهو ذلك الوجه الَّذي يفتح الله لي. وأمَّا العرش الَّذي رأيتني عليه جالساً؛ فإِنَّ الله يرفعني، ويضع المشركين، وقال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100].

وأمَّا الَّذي أمرني بطاعة الله، وقرأ عليَّ السُّورة فإِنَّه نعى إِليَّ نفسي، وذلك: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نعى الله إِليه نفسه حين نزلت هذه السُّورة، وعلم أنَّ نفسه قد نُعيت إِليه. ثمَّ سالت عيناه وقال: لآمرنَّ بالمعروف، ولأنهي عن المنكر، ولأجدهن فيمن ترك أمر الله، ولأجرهن الجنود إِلى العادلين بالله ـ يعني: المشركين به ـ في مشارق الأرض ومغاربها حتَّى يقولوا: الله أحد، أحد، لا شريك له، أو يؤدُّوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، هذا أمر الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإِذا توفَّاني الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لا يجدني الله عاجزاً، ولا وانياً، ولا في ثواب المجاهدين زاهداً. فهذه الرؤيا الصَّالحة من المبشِّرات التي حدَّث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: « لم يبق من النبوَّة إِلا المبشِّرات » . قالوا: وما المبشرات؟ قال: « الرُّؤيا الصَّالحة ». فهذه الرُّؤيا جاءت على قدرٍ لتدفع الصِّدِّيق إِلى العزم على ما همَّ به، وإِعلان ما أضمره، فدعا إِلى عقد مجلس شورى بخصوص غزو الشَّام، فقد أخذ الصِّدِّيق بالعزيمة، والعمل، والتوكُّل على الله، واستأنس بالرُّؤيا.

ثانياً: مشورة أبي بكرٍ في جهاد الرُّوم واستنفار أهل اليمن:

1ـ مشورة أبي بكرٍ في جهاد الرُّوم:

لمَّا أراد أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ أن يجهِّز الجنود إِلى الشَّام دعا عمر، وعثمان، وعليّاً، وطلحة، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجرَّاح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدرٍ، وغيرهم، فدخلوا عليه، فقال: إِنَّ الله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه، ولا تبلغ الأعمال جزاءها، فله الحمد كثيراً على ما اصطنع عندكم من جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إِلى الإِسلام، ونفى عنكم الشَّيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله، ولا أن تتَّخذوا إِلهاً غيره، فالعرب أمَّةٌ واحدةٌ، بنو أبٍ وأمٍّ، وقد أردت أن أستنفركم إِلى الرُّوم بالشَّام، فمن هلك؛ هلك شهيداً، وما عند الله خيرٌ للأبرار، ومن عاش؛ عاش مدافعاً عن الدِّين، مستوجباً على الله عزَّ وجل ثواب المجاهدين، هذا رأيي الَّذي رأيت، فليشر عليَّ كلُّ أمرئ بمبلغ رأيه.

فقام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فحمد الله، وأثنى عليه، وصلَّى على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قال: الحمد لله الذي يخصُّ بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استَبَقْنا إِلى شيءٍ من الخير إِلا سبقتنا إِليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الَّذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتَّى ذكرته الآن، فقد أصبت، أصاب الله بك سبل الرَّشاد، سَرِّبْ إِليهم الخيل في إِثر الخيل، وابعث الرِّجال تتبعها الرجال، والجنود تتلوها الجنود، فإِنَّ الله ـ عزَّ وجل ـ ناصر دينه ومعزُّ الإِسلام، وأهله، ومنجز ما وعد رسوله.

ثمَّ إِنَّ عبد الرحمن بن عوف قام، فقال: يا خليفة رسول الله! إِنَّها الرُّوم، وبنو الأصفر حدُّ حديدٍ، وركنٌ شديدٌ، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إِقحاماً، ولكن تبعث الخيل فتغير في أدنى أرضهم، ثمَّ تبعثها فتغير، ثمَّ ترجع إِليك، فإِذا فعلوا ذلك مراراً أضرُّوا بعدوِّهم، وغنموا من أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثمَّ تبعث إِلى أقاصي أهل اليمن، وإِلى ربيعة، ومضر فتجمعهم إِليك، فإِن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإِن شئت بعثت على غزوهم غيرك. ثمَّ جلس، وسكت النَّاس، فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون رحمكم الله؟!

فقام عثمان بن عفان ـ رضوان الله عليه ـ فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلَّى على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: رأيي أنَّك ناصحٌ لأهل هذا الدِّين، عليهم شفيقٌ، فإِذا رأيت رأياً علمته رشداً، وصلاحاً، وخيراً؛ فاعزم على إِمضائه غير ظنِّينٍ، ولا مُتَّهم. فقال طلحة، والزُّبير، وسعد، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعيد بن زيد، وجميع من حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان فيما قال، ما رأيت من رأي، فأمضه فإِنَّا سامعون لك، مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتَّهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك. فذكروا هذا وشبهه، وعليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ في القوم لا يتكلم، فقال له أبو بكر: ما ترى يا أبا الحسن؟!

فقال: أرى أنَّك مبارك الأمر، ميمون النَّقيبة، وإِنك إِن سرت إِليهم بنفسك أو بعثت إِليهم نُصرت إِن شاء الله . فقال أبو بكر: بشَّرك الله بخيرٍ، فمن أين علمت هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يزال هذا الدِّين ظاهراً على كلِّ مَنْ ناوأه حتَّى يقوم الدِّين وأهلُه ظاهرون » فقال أبو بكر: سبحان الله! ما أحسن هذا الحديث! لقد سررتني سرَّك الله في الدُّنيا والآخرة.

ثمَّ إِنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قام في النَّاس، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلَّى على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: أيها الناس! إِن الله قد أنعم عليكم بالإِسلام، وأعزَّكم بالجهاد، وفضَّلكم بهذا الدِّين على أهل كلِّ دينٍ، فتجهَّزوا عباد الله إِلى غزو الرُّوم بالشَّام، فإِنِّي مؤمِّرٌ عليكم أمراء، وعاقدٌ لهم عليكم، فأطيعوا ربَّكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولْتَحسُن نيَّتكم، وسيرتكم، وطعمتكم، فإِنَّ الله مع الَّذين اتقوا والذين هم محسنون. . . وأمر أبو بكر بلالاً فنادى في النَّاس: أن انفروا إِلى جهاد عدوِّكم الرُّوم بالشَّام.

من هذه المشورة تبيَّن لنا منهج أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ في مواجهة الأمور الكبيرة، حيث لم يكن يبتُّ فيها برأيٍ حتَّى يجمع أهل الحلِّ والعقد، فيستشيرهم، ثمَّ يصدر بعد ذلك عن رأي ممحَّصٍ مدروسٍ، وهذه هي سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مرَّ معنا في السِّيرة النَّبويَّة، وحينما نتأمَّل في تفاصيل هذه المحاورة نجد: أن الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ قد أجمعوا على موافقة أبي بكرٍ في غزو الرُّوم، وإِنما تنوعت وجهات نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو، فكان رأي عمر إِرسال الجيوش تلو الجيوش حتَّى تتجمَّع في الشَّام، فتكون قوَّةً كبيرةً تستطيع أن تصمد للأعداء . وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقوَّات صغيرة، تغير على أطراف الشَّام، ثمَّ تعود إِلى المدينة، حتَّى إِذا تمَّ إِرهابُ العدوِّ وإِضعافه؛ تبعث الجيوش الكبيرة، وقد أخذ أبو بكر برأي عمر في هذا الأمر، واستفاد من رأي عبد الرحمن بن عوف فيما يتعلَّق بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب، وخاصَّةً أهل اليمن.

2ـ استنفار أهل اليمن:

كتب الصِّدِّيق إِلى أهل اليمن يدعوهم إِلى الجهاد في سبيل الله، وهذا هو نصُّ الكتاب: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: من خليفة رسول الله إِلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن: سلامٌ عليكم. فإِنِّي أحمد إِليكم الله الَّذي لا إِله إِلا هو. أما بعد: فإِنَّ الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا خفافاً، وثقالاً، وقال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] والجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم، وقد استنفرنا مَنْ قِبَلَنا مِن المسلمين إِلى جهاد الروم بالشَّام، وقد سأرعو إِلى ذلك، وعسكروا، وخرجوا، وحسنت بذلك نيَّتهم، وعظمت في الخير حسبتهم، فسارعوا عباد الله إِلى ما سارعوا إِليه، ولتحسن نيَّتكم فيه، فإِنَّكم إِلى إِحدى الحسنيين: إِمَّا الشَّهادة، وإِمَّا الفتح والغنيمة، فإِنَّ الله تبارك وتعالى لم يرضَ من عباده بالقول دون العمل، ولا يزال الجهاد لأهل عداوته حتَّى يدينوا بدين الحقِّ، ويقرُّوا لحكم الكتاب، حفظ الله دينكم، وهدى قلوبكم، وزكَّى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصَّابرين. وبعث الصديق هذا الكتاب مع أنس بن مالكٍ ـ رضي الله عنه ـ وفي هذا الكتاب يظهر دور أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في حثِّ المسلمين، وجمعه للجهاد في سبيل الله، وهو ما يمكن أن يسمَّى بالتعبئة العامَّة.

ومن خطاب الصِّدِّيق لأهل اليمن يتَّضح: أنَّ الجهاد من أجل تحقيق غرضين: تحقيق إِسلام المسلمين؛ لأنَّ الله لا يرضى لعباده بالقول دون العمل، ومقاتلة غير المسلمين حتَّى يدينوا بدين الحقِّ، ويقرُّوا لحكم كتاب الله، وهذا هو السبب الَّذي جعل أهل اليمن ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعدادٍ هائلةٍ، ولم يصل إِلى علمنا أنَّ أحداً منهم خرج مستقرها، بل خرجوا طواعيةً، وأقبلت جموعهم بنسائهم، وأولادهم، وكانوا من أسرع المستجيبين للنِّداء حبّاً ورغبةً في الجهاد، ويعبر عن هذا أنس بن مالكٍ حامل رسالة الصِّدِّيق إِلى أهل اليمن، والَّذي تنقَّل بين أحيائهم قبيلةً قبيلةً، وجناحاً جناحاً يقرأ عليهم كتاب أبي بكرٍ، ويحثُّهم على الإِسراع، فقال: فكان كلُّ من أقرأ عليه ذلك الكتاب، ويسمع هذا القول يحسن الردَّ عليَّ، ويقول: نحن سائرون، وكأنَّا قد فعلنا، حتَّى انتهيت إِلى ذي الكلاع، فلمَّا قرأت عليه الكتاب، وقلت هذا المقال؛ دعا بفرسه، وسلاحه، ونهض في قومه من ساعته، ولم يؤخِّر ذلك، وأمر بالعسكر، فما برحنا حتَّى عسكر، وعسكر معه جموعٌ كثيرةٌ من أهل اليمن، وقد قام فيهم خطيباً، فقال فيما قاله: ثمَّ قد دعاكم إِخوانكم الصَّالحون إِلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم، فلينفر مَنْ أراد النَّفير معي السَّاعة، فعاد أنس بن مالك في حوالي 11 رجب 12 هـ وبشَّرَ أبا بكر بقـدوم القوم فقال: قد أتوك شُعْثاً غُبْراً أبطال اليمن، وشجعناها، وفرسانها، وقد ساروا إِليك بالذَّراري، والحرم، والأموال، وما لبث إِلا أياماً حتَّى قدم ذو الكلاع الحميري وقومه في حوالي 16 رجب 12 هـ، ولم تكن هذه الاستجابة الفوريَّة الرَّاغبة بأهل(حمير) بل كلُّ من جاء من اليمن كان على نفس المستوى، وعلى سبيل المثال فقد قدم من(همدان) أكثر من ألفي رجلٍ وعليهم حمزة بن مالك الهمداني، وعندما قدم أهل اليمن على المدينة، ودخلوا المسجد على أبي بكرٍ فلمَّا سمعوا القران؛ اقشعرَّت جلودهم من خشية الله وجاشت أنفسهم، وجعلوا يبكون خاشعين، فبكى أبو بكر، وقال: هكذا كنَّا، ثم قست القلوب، وعندما رأى ذو الكلاع الحميريُّ الصِّدِّيق وجده شيخاً نحيلاً معروق الوجه، وعليه ثوب خشن، ولا شيء يسطع من ثيابه! لا شيء على الإِطلاق غير الورع يضيءُ وجهه الأبيض.

وكان ذو الكلاع قدم على الصِّدِّيق من اليمن، ومن خلفه، ومن حوله ألف عبدٍ من الفرسان، وعلى رأسه التَّاج، وعلى حلَّته الجواهر المتلألئة، وبردته تسطع بخيوط الذَّهب المرصَّع باللآلئ، والياقوت، والمرجان، فلما شاهد ما عليه الصِّدِّيق من اللباس، والزُّهد، والتَّواضع، والنُّسك، وما هو عليه من الوقار، والهيبة، تأثَّر ذو الكلاع، ومن معه من السادة، فذهبوا مذهب الصِّدِّيق ونزعوا ما كان عليهم، وقد تأثَّر ذو الكلاع بالصِّدِّيق، وتَزَيَّا بِزِيِّه حتَّى إِنَّه رُئي يوماً في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاةٍ ففزعت عشيرته، وقالوا له: فضحتنا بين المهاجرين والأنصار! قال: فأردتم أن أكون جبَّاراً في الجاهليَّة جبَّاراً في الإِسلام؟ لا ها الله! (أي: لا والله!) لا تكون طاعة الرَّب إِلا بالتَّواضع والزُّهد في هذه الدُّنيا.

وصنعت ملوك اليمن كما صنع ذو الكلاع الحميريُّ، فتخلَّوا عن التِّيجان المثقلة بالجواهر، وتركوا حلل المخمل الموشَّى بخيوط الذَّهب، والياقوت، والدرِّ والمرجان، واشتروا من سوق المدينة ثياباً خشنةً، ووضع الصِّدِّيق في بيت المال ما تخلَّوا عنه جميعاً من نفائس.

كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ خير مَنْ تمثَّل بالإِسلام في حياته بعد رسول الله، وكان لسان حاله دعوةً إِلى الله تعالى، وأبلغُ نصيحةٍ تلك الَّتي يشاهدها النَّاس من طريق العين لا من طريق الأذن، وخير النَّاصحين من ينصح بأفعاله لا بأقواله.. فلمَّا رأى ملوك اليمن: أنَّ أبا بكر خليفة رسول الله وصاحب الأمر والنَّهي في الجزيرة العربية يمشي في الأسواق، ويلبس العباءة والشَّملة؛ علموا: أنَّ هناك شيئاً أعظم من الثِّياب المزركشة، والذَّهب واللآلئ، هو النَّفْس العظيمة، فسعوا ليتشبَّهوا بأبي بكرٍ، واستحيوا من الله والنَّاس أن يقابلوا خليفة رسول الله بالتَّاج، والبرود، والحلي، وهو بعباءة، فقد صغرت عليهم نفوسهم، وهانت، وهدأت ثورتها، وانطفأت سورتها، كما ينطفأ النَّجم الصَّغير إِذا واجه الشَّمس. رحم الله أبا بكر! فقد كان عظيماً في تواضعه، متواضعاً في عظمته.

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book01(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022