الخميس

1446-04-14

|

2024-10-17

الأسس الدينية والفكرية للمنهج التربوي عند ابن السنوسي...

بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي

الحلقة الثالثة عشر

صفر 1441 ه/ أكتوبر 2019

انتهج ابن السنوسي منهجاً تربوياً استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خبرته بالطرق الصوفية التي درس جلها، وانتقد اخطائها، وعمل على طريقة خاصة يسلكها اتباعه وفي كتابه السلسبيل نلاحظ أنه كانت لديه ملاحظات على عدد من الطرق، وحدد معالم الطريقة التي تتقيد بالكتاب والسنة، إن ابن السنوسي كان يؤمن بالصوفية الموافقة للكتاب والسنة والصوفي الحقيقي في رأيه من يتقيد بالكتاب والسنة، وقد قال في ذلك " فاعلم أن سبيل القوم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الجليل والحقير وأعمالهم موزونة بميزان الشريعة " وقد فصل رحمه الله تعالى في تدريج المريد في مراتب السلوك قال بعون الله وتوفيقه.
أولاً: ( يتعين على المريد أن يصحح عقيدته بميزان اعتدال أهل السنة والجماعة كثر الله سوادهم وأدام امدادهم ).
ولقد بينت مجملها عندما تحدثت عن رسالة أبي زيد القيرواني كجزء من المنهج الذي كان يتعلمه أتباع الحركة السنوسية.
إن منهج أهل السنة والجماعة يبين المفهوم الصحيح لتوحيد الله عزوجل لأنه اعتمد على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد تتبع علماء أهل السنة والجماعة نصوص الكتاب والسنة وخرجوا بالنتيجة التالية ألا وهي أن توحيد الله سبحانه وتعالى يعني إفراد الله سبحانه وتعالى في توحيد ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وقد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام وهي:
1- توحيد الربوبية: ومعناه إفراد الله بالخلق والرزق والمـلك والتدبير والتصريف ولا يشاركه فيها أحد من خلقه وهذا مركوز في الفطرة لا يكاد ينازع فيه أحد حتى المشركين الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بذلك ولا ينكرون ولا يجعلون أحداً من آلهتهم شريكاً لله في ربوبيته.
قال تعالى : ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31].
وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ۝ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ۝ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: 84-89].
ولكن لما وجد في الناس من ينازع في توحيد الله بالربوبية ويجعل لغير الله عزوجل شيئاً من الشركة معه في الخلق والرزق أو التدبير لم يهمل القرآن الكريم الاحتياج له بل قرره أبدع التقرير في قوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 91].
2- توحيد الألوهية:
هو إفراد الخالق جل وعلا بالعبادة وإخلاص الدين له وحده.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
ولهذا كان الصحيح أن أول واجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
3- توحيد الأسماء والصفات:
هو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأنه سميع بصير رؤوف رحيم على العرش استوى وعلى الملك احتوى وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى والقاعدة في هذا الباب عند أهل السنة أن يصفوا الله بما ( وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة مالم يصف ).
أما طريق الراسخين في العلم في هذا الباب : " والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحداً ولا يتكلفون وصفه بما لم يسمع تعمقاً لأن الحق ما ترك وتسميته ما سمى ( ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
ثانياً- ( أن لايقدم المريد على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فيتعلم مايحتاج إليه من المسائل الفقهية المتعلقة بظاهر البدن على مذهب من المذاهب الأربعة ).
ولهذا كان اتباع الحركة السنوسية يتدارسون رسالة أبي زيد القيرواني في العقائد وفي الفقه المالكي، وأضاف ابن السنوسي بعض الكتب المهمة في هذا الباب، كصحيح البخاري، والموطأ وبلوغ المرام.
1- صحيح البخاري:
إن الإمام البخاري - رضي الله عنه - واحد من أعظم علماء هذه الأمة، الذين رفع الله لهم ذكرهم، وأجرى ألسنة الخلق بالثناء عليهم والدعاء لهم.
سبق الجميع في العناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووقف عمره عليه، فأصبح أمير المؤمنين في الحديث، وترك للمسلمين من بعده أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم، كان آية في الحفظ، وغاية في الشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
- مكانة الجامع الصحيح بين كتب السنة الستة:
اتفق علماء هذه الأمة على أن جامع البخاري أجل وأعظم من جميع كتب السنة.
قال العلامة القسطلاني : " أما فضله: فهو أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن، والمتلقى بالقبول من العلماء في كل أوان. فقد فاق أمثاله في جميع الفنون والأقسام، وخص بمزايا من بين دواوين الإسلام، شهد له بالبراعة والتقدم الصناديد العظام، والأفاضل الكرام، ففوائده أكثر من أن تحصى وأعزز من أن تستقصى ".
وقال البخاري: "ما وضعت في الصحيح" حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين، وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات.
وقال ابن تيمية: "ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن".
إن كتاب الصحيح البخاري جمع بين الفقه والحديث وعلوم متعددة.
إن وضعه في المنهج التربوي عند ابن السنوسي يدل على حرصه على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم .
2- موطأ الإمام مالك:
إن حب ابن السنوسي للإمام مالك ابن أنس وكتابه الموطأ يظهر للباحث جلياً في المقدمة التي كتبها لطلابه، والتي تدلنا على قدرة ابن السنوسي في تعليم وتفهيم تلاميذه، فيقدم لهم المادة الغزيرة بأسلوب سلس بسيط مليئ بالعلوم التاريخية والفقهية، والحديثية، والتربوية.
ولقد تحدث عن مدح العلماء للموطأ فقال: فاعلم أن كتاب الموطأ للإمام دار الهجرة المجمع على جلالته من أجلّ المصنفات، وأنفس المؤلفات.
وعن محمد بن حرب المدني ( .. ثم إن مالكاً عزم على تصنيف الموطأ فصنفه، فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت، فقيل لمالك: شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب، وقد شركك فيه الناس، وعملوا أمثاله، فقال: ائتوني بما عملوا، فأتى بذلك فنظر فيه، ثم نبذه فقال: لتعلمن أن لايرتفع إلا ما أريد به وجه الله. قال فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار، وما سمع لشيء منها بَعْدُ ذكرٌ يذكر .. ).
وذكر سبب وضعه فقال: فقد روى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتاباً أحملهم عليه، فكلمه مالك في ذلك، فقال: ضعه فما أجد اليوم أعلم منك، فوضع الموطأ فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر.
وفي رواية أن المنصور قال له: ضع هذا العلم ودوّن فيه كتاباً، وتجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود وأقصد أواسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة وقد ذكر ابن السنوسي مارأى في الموطأ من البشائر فقال: عن مصعب بن عبدالله الزبيري قال: سمعت أبي يقول: كنت جالساً مع مالك بن أنس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتاه رجل، فقال: أيكم مالك؟ فقالوا: هذا، فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره، وقال: والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة جالساً في هذا الوضع، فقال: ائتوني بمالك فأتى بك ترتعد فرائصك، فقال: ليس بك بأس يا أبا عبدالله، وكناك، وقال: اجلس، فجلست، قال: افتح حجرك، ففتحه فملأه مسكاً منثوراً وقال ضمه إليك وبثه في أمتي، قال: فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولاتغر، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله تعالى.
إن في الروايات السابقة معاني تربوية عميقة كان اتباع الحركة السنوسية يتربون عليها منها:
1- اخلاص الأعمال لوجه الله، وأن دوامها وقبولها من شروطه هذا الركن الأصيل، وأن العلماء المخلصين، يتكفل الله بحفظ علمهم ونشره بين الناس.
2- إن منهج الإعتدال، والحكمة، والاستقامة المتمثل في الوسطية التي سار عليها الإمام مالك، كانت منهجية أصيلة في حياة ابن السنوسي وإخوانه.
3- إن ابن السنوسي كان يرأى أن الرؤى الطيبة لعباده الصالحين تسر ولاتغر، وأحب أن يغرس هذا الفهم في أذهان تلاميذه، ولذلك ساق لهم رؤية ذلك الرجل للإمام مالك.
وقد أفرد ابن السنوسي في مقدمته للموطأ باباً في التعريف بمؤلف الموطأ الإمام مالك وثناء الناس عليه، ونقل قول النووي: ( قد اجتمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته، وعظم سيادته وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والثبات، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جمع بين شرفي الحديث والفقه، فهو إمام الأئمة وشيخهم، قد روى عنه سائر الأئمة خصوصاً الأربعة أما أبو حنيفة فبلا واسطة، فقد حكى غير واحد أنه لقى مالكاً وأخذ عنه ... وأما الشافعي فأمره مشهور معه، حتى قال ابن الأثير: كفى مالكاً شرفاً أن الشافعي تلميذه، وكفى الشافعي شرفاً أن مالكاً شيخه.
وأما الإمام أحمد فقد أخذ عن الشافعي، فهو شيخه بواسطة، ومناقب هذا الإمام وفضائله رضي الله عنه تخرج عن أن تحصى، ولا يمكن فيها الحصر ولا الاستقصاء.
وذكر ابن السنوسي المناقب التي اجتمعت لمالك ولم تجتمع لغيره وأسند هذا القول للذهبي فقال:
1- طول العمر وعلو الرواية.
2- الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم.
3- اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية.
4- تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن.
5- تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده.
وذكر ابن السنوسي كلاماً يكتب بماء الذهب اسنده إلى مالك، ليتربى عليه إخوانه وتلاميذه منه:
قول مالك: لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لايتهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحمل وما يحدث به.
وقال مالك: قلّما كان رجل صادق، ولايكذب في حديثه، إلا مُتّع بعقله ولم تصبه مع الهرم آفة، ولاخرف.
ومن قوله: القول بالباطل بُعدٌ عن الحق، ولاخير في شيء وإن كثر من الدنيا يفسد دين المرء ومروءته.
لقد كان كتاب الموطأ حافلاً بالحديث، والآثار وقد جعله ابن السنوسي ضمن منهجه العلمي التربوي لأتباعه.
3- بلوغ المرام:
وهو كتاب جامع للأحكام، ألفه العلامة أحمد بن علي بن محمد أبو الفضل الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني، وقد نال كتاب بلوغ المرام رضى العلماء، فهو كتاب مفيد مع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل، وأقبل عليه العلماء قديماً وحديثاً فلا تجد حلقة عالم إلا وكتاب بلوغ المرام على رأس القائمة وأقبل عليه الطلاب بالحفظ والتداول واستغنوا به عن غيره من أمثاله، فصار له القبول وعليه إقبال حتى استفاد منه في كل عصر الجم الغفير، وقد جعله ابن السنوسي ضمن منهجه التربوي التعليمي، ويتعلم الطالب من هذا الكتاب:
- بين مؤلفه مرتبة الحديث من الصحة والحسن والضعيف بما يغني الطالب عن الرجوع إلى غيره.
- اقتصر من الحديث على الشاهد من الباب بما لا يخل بالمعنى المقصود، فخلص من هذا الإيجاز والفائدة.
- انتقى أحاديث الكتاب من دواوينه المشهورة وأمهاته المعتبرة التي أشهرها مسند أحمد والصحيحين والسنن الأربع.
- يصدر الباب - غالباً - بما في الصحيحين أو أحدهما ثم يتبعها بما في السنن أو غيرها لتكون الأحاديث الصحيحة هي العمدة في الباب والمرجع في المسائل والباقي مكملات ومتممات.
- رتب المؤلف كتبه وأبوابه وأحاديثه على كتب الفقه ليسهل على الطالب مراجعته.
- جعل في آخره نخبة طيبة من أحاديث جامعة في الآداب ليستفيد منه الطالب في الأحكام والسلوك.
هذه بعض الكتب القيمة التي جعلها ابن السنوسي في منهجه العلمي التربوي.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book180.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022