الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك)
الحلقة: 143
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ فبراير 2021
 
هي أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية أخت عمر بن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك، كانت إحدى فضليات النساء في عصرها، وقد ذكرها أبو زرعة في طبقاته فيمن حدَّث بالشام من النساء، فقال: أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وروى عنها ابن أبي عَبْلة .
وكانت رحمها الله دائمة الذكر لله سبحانه وتعالى، موصولة القلب بكتابه الكريم، تتعاهد القران صباح مساء، فلا تكاد ترى إلا وهي تالية للقران خاضعة لذكر الرحمن، وكانت تسابق زوجها الوليد في تلاوة القران، ولها مواقف وأقوال محمودة؛ منها:
1 ـ خشيتها لله عز وجل:
كانت تختلف عما كانت عليه عامّة النساء، فإذا ما ذكر الله عز وجل، استشعرت خشيته ومهابته في قلبها، ورأت بنور بصيرتها أنَّ السعداء هم الذين يخافون الله، ومن أقوالها في هذا: ما تحلّى المتحلّون بشيء أحسن عليهم من عظيم مهابة الله عز وجل في صدورهم. وكانت تتقرّب إلى الله عز وجل بكل ما يرضيه ويقرّبها إليه.
ومن صور حياتها المضيئة ما ذكره ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: أنَّها كانت تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عزَّ وجل ، وبلغت هذه التابعية درجة عالية من الورع والخوف من الله تعالى؛ فقد كانت تتحرى أمورها بدقة وتعقل، فلا تكاد تقبل عرضاً أو مالاً جاء إلا من وجه شرعي، وترفض كل (هدية) جاءت من أي مصدر غير مشروع، وإليك هذه القصة: حجَّ الوليد بن عبد الملك، وحجّ محمد بن يوسف من اليمن وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد ـ زوجها ـ: يا أمير المؤمنين! اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن يوسف فيها فأبى وقال: ينظر فيها أمير المؤمنين، فيرى رأيه ـ وكانت هدايا كثيرة. فقالت: يا أمير المؤمنين ! إنك أمرت بهدايا محمد بن يوسف أن تُصرف إليَّ، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت: بلغني أنّه غصبها الناس، وكلَّفهم عَمَلها وظَلَمهم، وحمل محمد بن يوسف المتاع إلى الوليد.
فقال له الوليد: بلغني أنَّك أصبتها غصباً. قال: معاذ الله، فأمر الوليد، فاستُحلف بين الرُّكن والمقام خمسين يميناً لله ما غصب شيئاً منها، ولا ظلم أحداً ولا أصابها إلا من طَيّب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين . ومات ابن يوسف باليمن .
2 ـ جودهـا وكرمهـا:
قيل لأمِّ البنين ـ رحمها الله ـ: ما أحسن شيء رأيت؟ قالت: نعم الله مقبلة عليّ . ومن أقوالها في ذم البخل والبخلاء: لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنّهم بالله عز وجل لكان عظيماً. ومن أخبار جودها: أنها كانت تدعو النِّساء إلى بيتها، وتكسوهن الثياب الحسنة، وتعطيهن الدنانير، وتقول: الكسوة لكُنَّ، والدّنانير قسمتها بين فقرائكن ـ تريد بذلك أن تعلمهن وتعوِّدهن على البذل والجود. وكانت تقول: أفٍّ للبخل، والله لو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته ، وكانت تقول: البخل كل البخل من بخل عن نفسه بالجنة ، ويبدو أن أم البنين قد أحبت بذل المال، وإنفاقه في طرق مشروعة لتشعر بنعمة الله عليها، ولم تكن الدراهم والدنانير تعرف إلى بيتها سبيلاً، فسرعان ما تنفقها، ولله در الشعر؛ فكأنه عناها بقوله:
وإني امرؤٌ لا تستقرُّ دراهمي
على الكفِّ إلا عابراتِ سبيلِ
وكانت تقول: جُعل لكل قوم نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للصِّلة والمواساة أحب إليّ من الطعام الطيب على الجوع، ومن الشراب البارد على الظمأ . ولشدة حرصها على الإنفاق، ووضعه في مواضعه واصطناع ايات المعروف كانت تقول: ما حسدت أحداً قط على شيء إلا أن يكون ذا معروف، فإني كنت أحب أن أشركه في ذلك. ومن روائع أقوالها في هذا: وهل ينال الخير إلا باصطناعه ؟! فمن جملة اصطناعها للمعروف، والإعانة عليه: ما ورد أن الثريا بنت علي بن عبد الله، لما
مات زوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عنها أو طلقها، خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين كان عليها، فبينما هي عند زوجه أمِّ البنين بنت عبد العزيز، إذ دخل عليها الوليد، فقال: من هذه عندك؟ قالت أم البنين: الثُّريا بنت علي جاءتني أطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها. فقُضيت حوائجها وانصرفت شاكرة لأمِّ البنين وزوجها الوليد .
3 ـ أم البنين والحجّاج:
تذكر كتب التاريخ أن الحجّاج بن يوسف قدم على الوليد بن عبد الملك، فأذن له بالدخول، فدخل عليه، وعليه عمامة سوداء وقوس عربية، وكنانة. فبعثت إليه أمُّ البنين فقالت: من هذا الأعرابي المستلئم ـ المتسلح ـ في السِّلاح عندك، وأنت في غِلالة غرر، فأرسل إليها أنه الحجّاج بن يوسف الثقفي. فراعها ذلك وأوجست خيفة في نفسها وقالت: والله، لأن يخلو بك ملك الموت، أحب إليَّ من أن يخلو بك الحجّاج بن يوسف وقد قتل الخلق وأهل الطاعة ظلماً وعدواناً، فعرف الحجّاج رأي أم البنين، فقال للوليد: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليس بقهرمانة، ولا تطلعهن على أمرك ولا تطلعهن في سرّك، ولا تستعملهن لأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن، فإنّ رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن، ولا تملك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها، ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها، ولا تطل الجلوس معهن، فإنَّ ذلك أوفر لعقلك وأبين لفضلك، ثم نهض الحجّاج وخرج من عند الوليد، فدخل الوليد على أم البنين، فأخبرها بمقالة الحجّاج ورأيه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أحبُّ أن يأمره أمير المؤمنين بالتسليم علي غداً، قال: أفعل، فغدا الحجّاج على الوليد فقال: ائت أم البنين، فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين ! فقال الوليد: لتفعلنّ، فلا بدّ من ذلك، وأسقط في يد الحجّاج، فهو يعلم رأيها فيه، وفي أخيه محمد بن يوسف من قبل، واللقاء معها لا يبشر بخير، ولكن ليس في الأمر حيلة، ولا مخرج له من هذا الموقف المحرج. فمضى وأتى مكانها، فحجبته طويلاً، ثم أذنت له، وتركته قائماً، ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت له: أنت الممتنُّ على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث؟ ثم ذكرت له قتل عبد الله بن الزبير، وعددت له فظائعه، وأنكرت عليه قوله بالأمس ـ بالنساء ـ مع زوجها الوليد، وذكرت له قبح منظره
وسوء خلقه، ثم قالت تعرّض به: قاتل الله الذي يقول وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك:
أسدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ
ربداءُ تنفرُ من صفيرِ الصَّافرِ
إلى اخر الأبيات. ثم أمرت جارية لها، فأخرجته مقبوحاً مذموماً مدحوراً، فلما دخل على الوليد سأله فقال: ما كنت فيه يا أبا محمد؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها، فضحك الوليد وقال: يا حجّاج إنها ابنة عبد العزيز بن مروان .
وأما ما ينسب إلى أم البنين في قصتها المكذوبة مع وضاح اليمني، فهي ليس لها نصيب من الصِّحة ، وما ذكرته كتب الأدب من الأكاذيب والأباطيل في حق هذه التابعية لا ينظر إليه، ولا يعتمد في تقرير الحقائق التاريخية.
سابعاً: المراسلات بين الوليد وملك الروم:
كانت هناك مراسلات بين الوليد وبين ملك الروم ولاسيما حينما هدم الوليد كنيسة دمشق، فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صواباً فقد أخطأت، وإن كان خطأ فما عذرك؟ فكتب إليه الوليد: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ *} [الأنبياء: ـ 79] .
وحين قرر الوليد بن عبد الملك فتح القسطنطينية وأعد العدة لذلك، أرسل قيصر الروم سفيراً يدعى دانيا حاكم مدينة سينوب إلى دمشق للتداول مع الخليفة حول إمكانية عقد هدنة بين الطرفين، وزوده بتعليمات سرية ترمي إلى الوقوف على مدى استعدادات المسلمين لحصار القسطنطينية، وعند رجوعه أطلعهم على استعداد العرب للحملة، وحث الروم على اتخاذ التدابير الكفيلة بمواجهة الموقف ، وهذا يدل على أن الروم كانوا يتخذون من السفراء والوفد وسيلة لجمع المعلومات في الدولة الإسلامية واستعداداتهم تجاه الروم، والتجسس على الدولة الإسلامية، مستغلين كونهم رسلاً بين الدولتين، مستفيدين من طبيعة المهمة السلمية التي يقومون بها.
وكانت هناك مراسلات وتبادل هدايا بين الخليفة الوليد بن عبد الملك وبين ملوك الروم حين أراد بناء الجامع الأموي، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما أهداه الوليد إلى ملك الروم من كميات الفلفل قدرت قيمتها بعشرين ألف دينار ، وهناك روايات كثيرة تشير إلى التعامل السلمي وتبادل الخبرات الذي كان موجوداً بين الوليد وقيصر الروم، فقد أراد الوليد الاستفادة من خبرات الروم في صناعة الفسيفساء والبناء والعمران ، وكانت هناك مراسلات متعلقة بالأسرى والرهائن بين الطرفين، فقد كانت من المسائل المهمة جداً، وكانت المفاوضات بشأنها تجري إما في دمشق أو في القسطنطينية، وليس في مدن محلية صغيرة.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022