الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

سليمـان بن عبد الملك والعلمـاء:
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
الحلقة: 145
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ فبراير 2021
 
تميز سليمان بن عبد الملك بحرصه على تقريب العلماء وقبول نصيحتهم والاستماع إليهم، ومن أشهر هؤلاء العلماء الذين كانوا مستشارين: رجاء بن حيوة، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.
1 ـ رجـاء بن حيـوة:
أبو نصر الكندي، الإمام القدوة، الوزير العادل، الفقيه، من جلة التابعين، حدث عن معـاذ بن جبل وأبي الدرداء، وعبـادة بن الصامت وطائفـة، قال عنه مسلمة بن عبد الملك أمير السرايا: برجاء بن حيوة وبأمثاله ننصر.
وهو من العلماء الذين كان لهم قرب وحظوة عند خلفاء بني أمية؛ قال عنه صاحب الحلية: مشير الخلفاء والأمراء، وقد بدأ اتصاله بهم منذ عهد عبد الملك، وقد بلغت مشاركة رجاء وتأثيره السياسي في عهد سليمان بن عبد الملك الذروة، فقد اتخذه سليمان وزير صدق له يستشيره في كثير من الأمور والقضايا المتعلقة بسياسة الدولة وإدارتها، فقال عنه سعيد بن صفوان: وكانت له من الخاصة والمنزلة عند سليمان بن عبد الملك ما ليس لأحد يثق به ويستريح إليه ، وقد كان رجاء ملازماً لسليمان بن عبد الملك حتى في سفره، بدليل أنه كان مع سليمان حين خرج إلى دابق ، وكان يخلو معه في مجلسه، وأشرف بنفسه على تمريضه حتى مات، على أن أكبر تأثير سياسي لرجاء في عهد سليمان يظهر في إشارته عليه باستخلاف عمر بن عبد العزيز من بعده، والتخطيط الدقيق لتنفيذ ذلك بحكمة وحنكة، وسيأتي الحديث عن ذلك في محله بإذن الله.
لقد كان لموقف رجاء في استخلاف عمر أثر سياسي كبير غيَّر مجرى التاريخ الأموي بصفة خاصة، والإسلامي بصفة عامة، وفي عهد عمر بن عبد العزيز ظل رجاء يتبوأ مكانة كبيرة ومنزلة عالية من خلال قربه من عمر وملازمته له، حيث جعله عمر من خواصه وسماره يستشيره ويستنصحه في أمور العامة والخاصة، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز أقبل على شأنه وترك القرب من الخلفاء، وذلك حين رأى أنه لم يعد لقربه من الخليفة ما كان يهدف إليه من تحقيق المصالح وبذل الخير لعامة الأمة .
2 ـ سليمان ونصيحة أبي حازم:
حج سليمان بالناس سنة 97 هـ، فمرّ على المدينة وهو يريد مكة فقال: أهاهنا أحد يذكّرنا؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدعاه، فلما دخل عليه؛ قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب وقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا.
فقال سليمان: يا أبا حازم ! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم اخرتكم وعمرتم الدنيا؛ فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت. فكيف القدوم على الله عز وجل غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالابق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما أنا عند الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده؟ قال: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ *} [الانفطار: 14] .
قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل ؟ قال: أولو المروءة والتقى، قال: فأيالأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المحسن للمحسن، قال: فأي الصدقة أزكى؟ قال: صدقة السائل البائس، وجهد من مقلّ ليس فيها منٌّ ولا أذى، قال: فأي القول أعدل ؟ قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه، قال: فأي الناس أحمق؟ قال: رجل انحط من هوى أخيه وهو ظالم فباع اخرته بدنيا غيره. قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين تعفيني من ذلك؟ قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليّ، قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة، وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم، فغشي على سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم، قال أبو حازم: كذبت يا عدو الله ! إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينُنّه للناس ولا يكتمونه، فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم ! كيف لنا أن نصلح للناس؟ قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروءة وتقسم بالسويّة، قال سليمان: كيف المأخذ به؟ قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين! قال: ولمَ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات.
قال: يا أبا حازم ارفع إليّ حوائجك، قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادعُ لي الله يا أبا حازم، قال: اللهم إن كان سليمان وليَّك فيسّره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوّك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: زدني، قال: يا أمير المؤمنين ! قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم تكن من أهله فما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، قال: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز: عظِّم ربك ونزّهه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، ثم قام، فبعث إليه سليمان بمئة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير، فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين ! أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك باطلاً، فوالله ما أرضاها لك؛ فكيف أرضاها لنفسي؟! يا أمير المؤمنين، إن كانت هذه المئة عوضاً لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كانت هذه حقاً لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سويت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها، قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين ! أيسرّك أن يكون الناس كلهم مثله؟ قال: لا والله .
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022