الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

خلافة سليمان بن عبد الملك (96 ـ 99 هـ)
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 144
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ فبراير 2021
 
هو سليمان بن عبد الملك بن أبي العاص بن أمية الخليفة، أبو أيوب القرشي الأموي، بويع بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين، وكان له دار كبيرة مكان طهارة جيرون، وكان ديناً فصيحاً مفوهاً عادلاً محباً للغزو ، وكان جميلاً، ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله واتباع القران والسنة، وإظهار الشرائع الإسلامية ، وكان يستعين في أمر الرعية بعمر بن عبد العزيز، وعزل عُمّال الحجّاج. وكتب: إن الصلاة قد أميتت فأحيوها بوقتها، وهمَّ بالإقامة ببيت المقدس، ثم نزل قنسرين للرباط، وحجّ في خلافته، وعن ابن سيرين قال: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلاف عمر ، وكان سليمان ينهى الناس عن الغناء .
أولاً: سياسته العامة:
كان عهد سليمان يمثل بداية المرحلة الجديدة من مراحل الخلافة الأموية وعلى الأخص المروانية منها، لما امتاز به من خصائص جديدة وتغير في أسلوب الحكم عن سابقيه منهم، إذ اتسمت سياسته بإيثار السلامة والعافية والنزوع إلى الموادعة والأخذ برأي أهل العلم والفضل من باب العمل بمفهوم الشورى والتمسك بالتعاليم والأحكام
الإسلامية، والحرص على تنفيذها، وهي الأمور التي وضحها في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، وبيَّن فيها سياسته التي سينتهجها في الحكم .
1 ـ حض الناس على الرجوع إلى القران الكريم:
إذ يقول: اتخذوا كتاب الله إماماً، وارضو به حكماً، واجعلوه قائداً فإنه ناسخ لما قبله،ولن ينسخه كتاب بعده.
2 ـ مفهومه للخلافة:
وقال في موضع اخر من خطبته مؤكداً على تمسكه بتعاليم الإسلام ورغبته بالموادعة والمسالمة، ومبيناً مفهومه للخلافة، وما يترتب على ذلك: جعل الله الدنيا داراً لا تقوم إلا بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن لله عباداً يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده، ويقيم بهم حدوده ورعاية عباده... ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله خلعها، لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي، فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان، لا تضلعني حمل النائبة ولا يفزعني صريف الأجفر ، وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفياً، وأصبحت خليفة وأميراً وما هو إلا العدل أو النار.. فمن سلك المحجة حُذي نعل السلامة، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة، ألا إنَّ الله سائل كلاًّ عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته، كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة، فكتب له سبيل الشكر والمكافأة، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه، سلم منا، ومن تاركنا تاركناه، ومن نازعنا نازعناه، فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم وطاعة سلطانكم، فإني غير مبطل لله حداً ولا تارك له حقاً، أنكثها عثمانية عمرية . أي: الشدة واللين .
3 ـ مفهوم الشورى عند سليمان:
وتأكيداً على مفهوم الشورى الذي جعله سليمان أحد دعائم حكمه، وصفة لنهجه الجديد؛ قال: وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت على أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم، واتفقت عليه كلمتهم .
ويقول: رحم الله امرأً عرف سهو المغفل عن مفروض حق واجب فأعان برأي. ويقول أيضاً في موقع اخر: أيها الناس! رحم الله من ذُكِّرَ فاذّكر؛ فإن العظة تجلو العماء .
هذا النهج الجديد، مخالف لما نهجه عبد الملك والوليد في سياسة الدولة، القائمة على بسط النفوذ والسلطة بالقوة والتضييق على الناس ، فعبد الملك بن مروان يقول في إحدى خطبه: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ، وكان عبد الملك بن مروان: أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعون الخلفاء ويعترضون عليهم فيما يفعلون، ولما حضرته الوفاة قال للوليد وكان يبكي عليه عند رأسه: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك كالأمة الورهاء ، بل ائتزر وشمِّر، والبس جلد النمر، وادعُ الناس إلى البيعة ثانية، ومن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا .
وقد سار الوليد بن عبد الملك على هذا النهج، فمن خطبته عندما تولى الخلافة قوله: .. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه .
فهذا النهج الذي وضحه سليمان في خطبته وسار عليه في خلافته تنبه عدد من المؤرخين القدامى إليه وأشاروا إلى جوانبه المختلفة في كتاباتهم، فوصفه بعضهم بأنه من خيار بني أمية ، وحتى المؤرخ الشيعي المسعودي وصفه إلى إشارة السلامة والعافية ونزوعه إلى الموادعة واستشارة أهل العلم بقوله: كان سليمان لين الجانب.. لا يعجل إلى
سفك الدماء ولا يستنكف عن مشورة النصحاء ، ووصفه ابن كثير بقوله: يرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، واتباع القران والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية رحمه الله ، ووصفه لسان الدين الخطيب بقوله: وكان قائماً برسوم الشريعة . وأما ابن قتيبة فيقول: افتتح بخير؛ وختم بخير؛ لأنه رد المظالم إلى أهلها، ورد المسيرين، وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة، واستخلف عمر بن عبد العزيز وأغزى أخاه الصائفة حتى بلغ القسطنطينية، فأقام بها حتى مات ، وأما أبو زرعة الدمشقي، فقد عد خلافة سليمان، وخلافة عمر بن عبد العزيز واحدة، حيث يقول: كانت خلافة سليمان بن عبد الملك كأنها خلافة عمر بن عبد العزيز، كان إذا أراد شيئاً قال له: ما تقول يا أبا حفص؟ قالا جميعاً .
ثانياً: سيـاسة سليمان في اختيـار الـولاة:
راعى سليمان اعتبارات عدة في اختيار ولاته على الأمصار، ونظراً لحساسية هذا الموضوع، فقد أوضح جانباً من سياسته تلك في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، حيث قال: قد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم .
1 ـ استشـارة العلماء والنصحـاء من ذوي الخبـرة:
ولعل من هذه الاعتبارات استشارة العلماء والنصحاء من ذوي الخبرة في كل أمور الأمصار، فقد اتخذ عمر بن عبد العزيز وزيراً ومستشاراً، وقد صدر سليمان عن رأيه في عزل عمال الحجاج، وممن كان يستشيرهم رجاء بن حيوة الكندي، فقد ولى سليمان محمد بن يزيد الأنصاري ـ ويقال: القرشي ـ إفريقية بمشورته .
2 ـ اختيار العلماء وأهل الصلاح:
ومن هذه الاعتبارات في اختيار الولاة أيضاً اختيار الفقهاء، وأهل الصلاح والزهد، املاً من ذلك استبدال الظلم بالعدل، وبالتالي تغيير نظرة المجتمع الإسلامي انذاك إلى الخلافة الأموية، وكسب الرأي العام لصالحها، ومن هؤلاء: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري على المدينة، وهو أحد فقهائها، وكان ثقة كثير الحديث ، وكذلك الأمر مع عروة بن محمد بن عطية السعدي ، الذي ولاه سليمان اليمن، وكان من الزهاد ، وولى اليمن أيضاً في عهدي عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك ، وخرج من اليمن وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه، ويروى أنه لما دخل اليمن قال: يا أهل اليمن ! هذه راحلتي ؛ فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق ، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن عبد الملك بن رفاعة الفهمي والي مصر، حيث اتصف بحسن السيرة والتدين والعفة عن الأموال، والعدل في الرعية، بالإضافة إلى كونه ثقة أميناً فاضلاً ، وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد بن يزيد والي إفريقية، حيث اتصف بحسن السيرة والعدل بين الرعية .
3 ـ مصلحة الدولة فوق كل الاعتبارات:
في سنة 96 هـ جمع سليمان بن عبد الملك العراق ليزيد بن المهلب حربها وصلاتها، وأضيفت له خراسان حربها وصلاتها سنة 97 هـ ، ويمكن رد أسباب تولية يزيد لعدة اعتبارات ؛ منها:
أ ـ انقطاع يزيد بن المهلب إلى سليمان، بعد أن أجاره سليمان من الحجاج والوليد، وتعاظم ما بينهما لدرجة كبيرة جداً؛ فالطبري يقول: وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سليمان، ولا تأتي سليمان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، كما أن من دلائل تعاظم حظوة يزيد عند سليمان، أن يزيد كان يجلس على سريره .
ب ـ اتخذ سليمان يزيداً مستشاراً له فيما يخص المشرق الإسلامي، ويعزز هذا الرأي: أن يزيد كان في خراسان في حياة أبيه ووالياً بعد وفاة أبيه حتى عزله الحجاج عن خراسان، وبالتالي فإن الحجاج باعتباره قائداً عسكرياً وإدارياً كبيراً أحدث بوفاته فراغاً كبيراً، ووجد سليمان أن يزيد هو الأفضل لملء الفراغ الذي أحدثته وفاة الحجاج ، وكانت مصلحة الدولة عند سليمان تفوق كل اعتبار في تولية الولاة؛ فقد ولى يزيد بن المهلب حرب العراق وصلاته، إلا أنه لم يولِّه الخراج، وإنما عهد بأمره إلى أهل المعرفة والكفاية والدراية في أمور الخراج في العراق، وهو صالح بن عبد الرحمن مولى تميم ، كما أنه أقر تولية وكيع بن حميد الدوسي على خراج خراسان، وهو من أهل المعرفة والكفاية والدراية في هذا المجال .
ثالثاً: سياسة سليمان تجاه حركات المعارضة:
1 ـ الخوارج:
لم يعد للخوارج قوة تذكر، وكل ما كان منهم في عهد سليمان لا يعدو عن كونه عصيان مجموعات صغيرة، أو قل كبيرة فردية لا تكاد تقوم لها قائمة بمجرد إعلانها، ويذكر لسليمان بأنه كان أقل شدة من سابقيه في تعامله مع الخوارج غير الثائرين، فاكتفى بسجن من يسبون الخلفاء منهم، وكان يستشير عمر بن عبد العزيز في أمرهم ويصدع لحكمه فيهم، معلماً سليمان عدم وجود سبة تحل دم المسلم غير سبة الأنبياء، وكان عمر يرى حبسهم أو العفو عنهم .
2ـ الهـاشميـون:
أما بالنسبة لعلاقة سليمان بالعلويين فاتسمت بالمودة والهدوء، حيث كان يقرِّب العلويين ويقضي حوائجهم، وليس من الثابت أن سليمان تحامى أبا هاشم ـ عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب (ت 98 هـ) ـ وأرصد له من سمَّه، ويبدو لنا من دراسة تلك الروايات المتعلقة بهذه القصة أنها موضوعة ؛ للأسباب التالية:
أ ـ تختلف الروايات اختلافاً بيِّناً في تحديد اسم الخليفة الذي دبَّر حادثة السم، وبعضها تنسب ذلك إلى الوليد بن عبد الملك، وبعضها تنسب إلى سليمان بن عبد الملك، أما الجاحظ فقد حمل الأمويين مسؤولية سم أبي هاشم دون تحديد الشخص المسؤول عن ذلك.
ب ـ وحتى هذه المصادر التي صرحت بأن سليمان سمَّ أبا هاشم، فإنها تختلف في تحديد كيفية وحيثيات هذه المؤامرة.
جـ لا تجمع المصادر التي بين أيدينا على أن أبا هاشم توفي مسموماً، فهناك عدة مصادر يستشف منها أن وفاته كانت طبيعية .
د ـ وهناك عدة رجال وافتهم المنية بعد عودتهم من عند الخليفة سليمان أو أثناء إقامتهم عنده، ولا يمكن اعتبار وفاة هؤلاء الرجال جميعاً، أو أحدهم من تدبير الخليفة لمجرد وفاتهم وهم في صحبته، أو أثناء عودتهم من عنده. والذي يبدو أن وفاة أبي هاشم كانت طبيعية وليست بالسم، وأن ادعاء السم ما هي إلا روايات موضوعة .
3 ـ الزبيريون:
اتسمت علاقة سليمان بالزبيريين بالمودة، وكان سليمان يسأل عن أحوالهم ويتفقدهم، حيث قضى دين جعفر بن الزبير، عندما علم به ، وتَردُّ المصادر قوة علاقة سليمان بالزبيريين إلى يد سلفت لعبد الله بن الزبير على سليمان، ففي أثناء الصراع بين عبد الله بن الزبير والأمويين أُتي إليه بسليمان بن عبد الملك من الطائف، وكان يومئذ غلاماً صغيراً، فكساه وجهزه إلى أبيه للشام، بعد أن وصله ووصل جميع من كان معه. فكان سليمان يشكر ذلك لعبد الله بن الزبير، فلما ولي أحسن إلى جميع ولده، وكثيراً ما يأتونه فيبرهم ويصلهم، وكان يعظِّم ثابت بن عبد الله من بينهم . إن عهد سليمان اتسم بهدوء نسبي إلى درجة كبيرة، فلم يشهد حركات معارضة عنيفة، فكانت حركات الخوارج صغيرة، ولم تهدد كيان الدولة، ووادع الهاشميين وأحسن إليهم، كما وادع الزبيريين مكافأة لهم باليد التي كانت لعبد الله بن الزبير عليه .
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022