انطلاق العمليات الجهادية ضد المحتل في برقة
بقلم: الدكتور علي محمّد الصلابي
الحلقة الثامنة
ربيع الأول 1441 ه/ نوفمبر 2019
في 24 من شهر شوال (1329 هـ)، الموافق 19 أكتوبر (1911 م) وقف الأسطول الإيطالي بميناء بنغازي الامنة العزلاء، وقذفها بوابل من قنابله في غير شفقة ولا رحمة، وفي 22 من الشهر نفسه وقف بميدان درنة، وبعد التمهيد بقذف القنابل أنزل بها قوة عسكرية، وسرعان ما طير الخبر إلى الشيخ المجاهد أحمد الشريف بالكفرة، فأمر بالوقوف في وجه المعتدي، والاستعداد لقتاله والتضحية في سبيل الوطن بالنفس والنفيس، وكتب إلى رؤساء الزوايا في برقة وطرابلس وإلى شيوخ وأعيان القبائل يأمرهم بالدفاع ويحثهم على الجهاد، وكاتب الملوك، والأمراء وزعماء العالم الإسلامي طالباً منهم الوقوف مع إخوانهم المسلمين في ليبية ضد العدوان الصليبي الغاشم، وفي شهر رجب سنة (1330 هـ/1913 م) تحول من الكفرة إلى الجغبوب ليكون قريباً من ساحة الوغى.
استطاع الإيطاليون احتلال كبريات مدن ليبية الساحلية، كطرابلس ودرنة وطبرق، وكانت الحامية العثمانية في بنغازي تحت قيادة القمندان شكري بك في منتهى الضعف، فلا تستطيع أن تحمي نفسها فضلاً عن كونها تدافع عن البلاد التي كان احتلالها في رأي المحتلين والأوساط السياسية في أوروبة أمراً مفروغاً منه.
أخذ متصرِّف بنغازي فؤاد مراد بك يعقد اجتماعات مجلس الإدارة ويتشاور معهم، وكان وقتذاك رئيس الزاوية السنوسية ببنغازي هو أحمد العيساوي، فطلب منه المتصرف أن يحضر جميع الاجتماعات التي تعقد.
لقد جاهد أسود مدينة بنغازي شيباً وشباباً عن مدينتهم دفاعاً مجيداً، فأظهروا من البطولة والشجاعة النادرة ما جعلهم محل التقدير من كل المسلمين، وسجلوا صفحات مجيدة خالدة بماء الذهب في سجل التاريخ، وقد ساهمت القبائل القريبة من مدينة بنغازي في الجهاد، وأول من وصل منها قبيلة العواقير ومن معهم، وقام أهالي بنغازي بإكرام المجاهدين، رغم وجود الأمتعة والزاد الكافي، فأكرموهم غاية الإكرام، وفتحت الحكومة العثمانية مخازن الأسلحة، وكانت جلها بنادق لا تزيد عن أربعة الاف بندقية، وشرع المجاهدون في مهاجمة العدو الغاشم وكلفوه خسائر في الأرواح، واستشهد الكثير من أبناء المسلمين، وتعرف هذه المعركة بواقعة (جليانة).
ثم بعد يومين من ذلك انقض المجاهدون على الإيطاليين بموقع الصابري وقاتلوهم قتالاً عنيفاً، وغنموا منهم أسلحة كثيرة، وبعد ذلك بيومين كانت واقعة السلاوي الشهيرة، وكان يقود المجاهدين الشيخ عبد الله الأشهب، فأظهر شجاعة فائقة، وقدرة نادرة، ورأياً سديداً في توجيه قوات المجاهدين، وتحميسهم للجهاد، وحقق المجاهدون انتصاراً رائعاً، وغنموا جميع ما كان من الإيطاليين في الميدان من المؤن والعتاد الحربي، وكان عدد الشهداء كثيراً، وبعد واقعة السلاوي التحم المجاهدون في معركة حامية الوطيس مع العدو بقرب البركة بالموقع المعروف بـ (هوى الزردة)، فاستشهد فيه الكثير من المجاهدين، ومن بين الشهداء مئة وخمسون شهيداً من قبيلة واحدة هي عائلة إبراهيم العواقير، عدا شهداء أهل مدينة بنغازي وبقية القبائل الأخرى، ولقد أظهر سكان مدينة بنغازي من أصناف البطولة والكرم الفياض والصبر العجيب والثبات النادر والشجاعة العظيمة ما أثار إعجاب إخوانهم من القبائل.
وبدأت النجدات العسكرية تتوافد إلى مدينة بنغازي بتحريك شيوخ الحركة السنوسية، فوصلت كتيبة قبيلة العرفا، وعددها ثلاثمئة مسلح يقودها الشيخ عمران السكوري، وتلتها بقية النجدات التي جاء بها زعماء القبائل، وشيوخ الزوايا من كل حدب وصوب:
•الشيخ عبد الله الأشهب وكيل رئيس زاوية مسوس، ورؤساء قبائل العواقير.
•الشيخ محمد علي عبد المولى رئيس زاوية أم شخنب، ورؤساء قبائل إبراهيم العواقير.
•الشيخ حسن الغماري رئيس زاوية دريانة وقومه من العواقير.
•الشيخ التواتي الكليلي رئيس زاوية طلميثة وقومه من الدرسا.
•الشيخ محمد علي المحجوب رئيس زاوية الطيلمون مع مطاوع العواقير.
•الشيخ محمد الزروالي رئيس زاوية القطفية ومعه قومه من شوامخ المغاربة.
•الشيخ محمد علي الغماري رئيس زاوية أسقفة وقومه من البراعصة والدرسة.
•الشيخ محمد أبو نجوى رئيس زاوية ميراد مسعود وقومه من الدرسا.
•الشيخ عمر المختار رئيس زاوية القصور وقومه من العبيد.
كانت النجدات مؤلفة من قبائل العرفا، والدرسا، والبراعصة، والعواقير، والمغاربة، والعربيات، وزوية، والقبائل، والمسامير، والجرارة، والفواخر، ومن هذه القبائل أو منتمياً لها أو مجاوراً أو مرتبطاً بها قد وصلت في أسرع ما يمكن بقيادة زعماء وشيوخ القبائل، وشيوخ الزوايا، وهؤلاء السادة جمعوا الجموع تلبية لنداء القائد الأعلى للحركة السنوسية، وتقرر أن يكون موقع معسكرهم ومقر قيادتهم في بنينة شرق بنغازي أكثر من عشرين كيلو متراً، فقد صح فيهم قول الشاعر:
تلاميذ لا يعدون أمراً أراده بواد وأشراف تبيد الأعاديا
كتائب أمثال الجبال رزانة وإن حملت خلت الهضاب جواريا
أولئك أقوام على الموت بايعوا مبايعة أضحى بها الصبر راضيا
– وشرع المجاهدون في مهاجمة معاقل الإيطاليين بشدة وعنف، يقول الأمير شكيب أرسلان: «وفي 12 مارس جرت وقعة الفويهات الشهيرة، وكان سببها أن 200 عربي دخلوا بين استحكامي الفويهات والبركة، فثار في وجوههم الطليان، واشتدت الحرب، وأحاط الطليان بالمئتي مجاهد من العرب، فلبث هؤلاء العرب يقاتلون مستميتين إلى الظلام، وعند ذلك نجا منهم ولحقوا بالمعسكر العربي بعد قتال استمر طول النهار، ويقال إنه نجا 80 رجلاً من المئتين.
وأما الطليان فقتل وجرح منهم ألف وخمسمئة مقاتل؛ منهم 28 ضابطاً برتب مختلفة، وجنرال برتبة لواء، وأصيب بالجنون عدة ضباط من هول تلك المعركة، وكانت هذه المعركة قد شقت كثيراً على العرب، وقامت النوادب تندب أولئك الأبطال التي حالت مدافع الطليان دون إمكان نجدتهم، وبينما العرب في مأتم على قتلاهم وردت برقية من أنور باشا القائد العام في درنة إلى عزيز علي المصري قائد المجاهدين في بنغازي عن برقية من الآستانة، عن برقية من برلين، عن برقية من روما، تفيد أن وقعة الفويهات هذه كانت من أشد المصائب على الطليان؛ خسروا فيها ألفاً وخمسمئة مقاتل، ومنهم ضباط كثيرون قتلى وجرحى، ومنهم من أصابهم الجنون من هول ذلك اليوم».
وفي شهر أبريل سنة (1912 م) خرجت حملة إيطالية بعدتها وعتادها مزودة بجميع أنواع السلاح، وهاجمت معسكر بنينة، فاندلعت بين الفريقين معركة عظيمة، استمرت ساعات متتالية، تمكن العدو فيها من احتلال موقع المعسكر، وانسحب المجاهدون، ثم باكر هذه المعركة التحم المجاهدون مع القوات الإيطالية في معركة بموقع حلق الريح، ولم يكن الفوز لأحد من الفريقين، رغم كثرة الأموات من الطرفين، ومن شهداء تلك المعركة الشيخ موسى قرق عمدة قبيلة العمارنة، والشيخ جبريل العبيدي، ثم عقب ذلك التحم الفريقان في معركة بموقع (حوش العكب)، وذلك يوم (17 رمضان سنة 1330 هـ)، وكانت القوات الإيطالية زاحفة نحو سلوق، ولكنها فشلت في تحقيق هدفها، ومن بين شهداء هذه المعركة؛ أبو زيد بن محمد الكزة، ومن بين الجرحى الشيخ عبد الحميد العبار، والشيخ يونس بن مصطفى أبو شنيف.
واستمر القتال في جميع أنحاء برقة من بنغازي إلى طبرق، وقد تمكن الطليان من احتلال بعض المراكز في الدواخل، وبعد حصول معارك كثيرة، وفي مواقع مختلفة أرسل الجنرال أميليو قائد القوات الإيطالية إلى شيوخ القبائل يطلب منهم إرسال مندوبين للدخول معهم في المفاوضات، وعندما وصل الوفد الإيطالي الذي يحمل الكتاب إلى المشايخ وصل السيد أحمد الشريف إلى موقع رويفع بن ثابت الأنصاري المعروف بسيدي رافع، فكان رد شيوخ القبائل على الجنرال الإيطالي، كالاتي:
وبعد: نخبر حضرتكم أننا اتصلنا بأعيان بنغازي، واطلعنا على شروطكم المسطورة الواردة معهم من حضرتكم، وقد أخبروا براحتهم مع دولتكم قبل وصول الأعيان جاءنا رسول من طرف الأستاذ الفاضل سيدنا أحمد الشريف؛ يخبرنا أنه وصل إلى الجبل الأخضر بموقع سيدي رافع، ويأمرنا بالحضور عنده، بناءً عليه لا يمكن الان حضور أحد منا صحبة أعيان بنغازي حتى نتصل بشيخنا وأستاذنا، إن شيخنا المومأ إليه نزل بساحتنا وطلب منا الحضور فلا يمكن التأخر عنه، وبعد الاجتماع به سيصدر من طرفه العالي كل ما يلزم، وبه يكون العمل، وها نحن أخذنا كتابكم لعرضه عليه (15 جمادى الثانية سنة 1331 هـ).
كان الموقعون على هذا الكتاب الشيوخ الاتية أسماؤهم:
عبد السلام الكزة، إبراهيم المصراتي، عمر الأوجلي، علي الأوجلي، محمد الكاسح، خليل مصطفى، مفتاح أبو خزيم، علي محجوب، مصطفى خليل، أبو بكر القذافي، مفتاح حسين، جاد الله أبو زيد، حبيب الله اللواطي، رويلة أبو لطيف، مطرود أبو شنيف اللواطي، المبروك اللواطي، المبروك عمر.
أما جبهة الجبل الأخضر، فقد كانت الكتائب السنوسية يقودها كل من:
•الشيخ محمد الدردفي رئيس زاوية شحات مع رؤساء ومشايخ وقبائل الحاسة.
•الشيخ محمد الحسين الحلافي رئيس زاوية المخيلي.
•الشيخ صالح بن إسماعيل رئيس زاوية الفائدية مع رؤساء ومشايخ عائلة فائد.
•الشيخ محمد العربي رئيس زاوية القصرين مع رؤساء ومشايخ قبائل البراعصة.
•الشيخ عبد القادر فركاش رئيس زاوية بشارة مع رؤساء قبائل العبيدات.
•الشيخ عبد الله أبو سيف رئيس زاوية مارة مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•الشيخ الغماري رئيس الزاوية البيضاء مع رؤساء قبيلة البراعصة.
•الشيخ محمد الغزالي رئيس زاوية ترت مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•الشيخ الحبيب بن جلول رئيس زاوية المرازيق مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•الشيخ المرتضي فركاش رئيس زاوية أم الرزم مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•الشيخ محمد العيساوي رئيس زاوية الحنية مع رؤساء الدرسا.
•الشيخ السنوسي الغماري رئيس الزاوية الحمامة مع رؤساء قبيلة البراعصة والدرسا.
•الشيخ جاد الله الجبالي رئيس زاوية العرقوب مع رؤساء قبيلة البراعصة والدرسا.
•الشيخ محمد أبو فارس رئيس زاوية أم حفين مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•الشيخ محمد بن عمور رئيس زاوية قفنطة مع رؤساء قبيلة البراعصة.
•الشيخ عبد الله سعد فركاش رئيس زاوية مرتوبة مع رؤساء قبيلة العبيدات.
•لبَّتْ هذه القبائل من السعادي والمرابطين نداء شيخ المجاهدين أحمد الشريف. وحضرت لقتال العدو تحت قيادة رؤساء زواياها وزعمائها وشيوخها الأسود.
•وبالنسبة لمنطقة طبرق جميع شيوخ الزوايا، وزعماء العشائر، القوات التي تأسس بها معسكر طبرق:
•الشيخ محمد الشارف رئيس زاوية أم الجرفات مع رؤساء قبائل حبون.
• الشيخ محمد عبد الله رئيس زاويـة أم ركبـة مع رؤسـاء قبائل القطعان والشواعر.
• الشيخ مرتضى الغرياني رئيس زاويـة جنزور مع رؤساء قبائل العبيدات والمنافا.
• الشيخ صالح الشريف رئيس زاوية المرصص مع رؤساء قبائل العبيدات.
فتم تأسيس أربع معسكرات هي: معسكر بنغازي، ومعسكر الجبل، ومعسكر درنة، ومعسكر طبرق في وقت قياسي.
صممت الدولة العثمانية على المقاومة حفاظاً لماء الوجه أمام الرأي العام الإسلامي، فأرسلت نخبة من ضباطها وقوادها المشهورين لتقوية روح المقاومة والدفاع، وتدريب المجاهدين وتعليمهم كيفية استعمال الأسلحة الحديثة والمعدات، وبدأت المساعدات المادية والمعنوية تتوافد على المجاهدين، وكان من أبرز القادة الأتراك الذين أرسلتهم الحكومة العثمانية كل من الرائد أنور بك، ومصطفى كمال، فتحي أوفيار، وخليل بك عم أنور بك، فؤاد بولجاقاش باشي، سليمان العسكري، وعزيز علي مصري، أدهم باشا الحلبي.
مراجع البحث:
1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(73:66).
2.أحمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ص (261)
3. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، 1948، ص(140).