تاريخ الدولة الأموية: عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(ثناء العلماء على معاوية ودخول دولة بني أمية في خير القرون)
الحلقة: الرابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
1 ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية؟! وقال أبو محمد الأموي: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه ، وراح إليه في موكب ، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله ، وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك ؟! قال: يا أمير المؤمنين ! إن العدو بها قريب منا ، ولهم عيون وجواسيس ، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزاً ، فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب ، أو خدعة رجل أريب؛ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين ، مرني بما شئت أصر إليه؛ قال: ويحك ! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك.
2 ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لا تكرهوا إمارة معاوية؛ فوالله لئن فقدتموه لترون رؤوساً تندر عن كواهلها كأنها الحنظل. فهذا توجيه من أمير المؤمنين علي لأصحابه لعدم كراهيتهم إمارة معاوية.
3 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
قال: ما رأيت أحداً أسود من معاوية ، قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيراً منه ، وكان معاوية أسود منه. وفي رواية: ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيراً منه ، وهو أسود منهم.
4 ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
قال: ما رأيت رجلاً كان أخلق بالملك من معاوية. وفي صحيح البخاري: أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنه ما أوتر إلا بواحدة ؟ قال: إنه فقيه، وذكر ابن عباس معاوية فقال: لله درُّ ابن هند ما أكرم حسبه وأكرم مقدرته ، والله ما شتمنا على منبر قط ، ولا بالأرض ، ضناً منه بأحسابنا وحسبه. وحين عزى معاوية عبد الله بن عباس في الحسن بن علي بقوله: لا يخزيك الله ولا يسوؤك في الحسن ، فقال له ابن عباس: أما ما أبقى الله لي أمير المؤمنين ، فلن يسوأني الله ولن يخزيني.
5 ـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
قال رضي الله عنه: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب ، يعني: معاوية.
6 ـ أبو هريرة رضي الله عنه:
كان يمشي في سوق المدينة وهو يقول: ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية ، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
7 ـ أبو الدرداء رضي الله عنه:
ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا ـ يعني معاوية ـ قال ابن تيمية بعد أن أورد أثر ابن عباس السابق ، وأثر أبي الدرداء هذا: فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه؛ والشهادة بالفقه ابن عباس ، وبحسن الصلاة أبو الدرداء؛ وهما هما ، والآثار الموافقة لهذا كثيرة.
8 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:
قال ابن وهب: عن مالك ، عن الزهري ، قال: سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لي: اسمع يا زهري ، من مات محباً لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وشهد للعشرة بالجنة ، وترحم على معاوية؛ كان حقيقاً على الله أن لا يناقشه الحساب.
9 ـ عبد الله بن المبارك رحمه الله:
قال: معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً ، اتهمناه على القوم ، يعني: الصحابة. وسئل ابن المبارك عن معاوية ، فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سمع الله لمن حمده». فقال خلفه: ربَّنا ولك الحمد؟! فقيل: أيُّهما أفضل: هو أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز.
10 ـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
قال ابن المبارك: عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة ، قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية ، فإنه ضربه أسواطاً.
11 ـ وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره:
سئل المعافى بن عمران: أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين ، معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه ، وأمينه على وحي الله.
12 ـ أحمد بن حنبل رحمه الله:
سئل الإمام أحمد: ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول: إن معاوية كاتب الوحي ، ولا أقول: إنه خال المؤمنين؛ فإنه أخذها بالسيف غصباً؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوءٍ رديء ، يجانب هؤلاء القوم ، ولا يجالسون ، ونبين أمرهم للناس.
13 ـ الربيع بن نافع الحلبي رحمه الله:
قال: معاوية ستر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كشف الرجل الستر ، اجترأ على ما وراءه.
14 ـ قال ابن أبي العز الحنفي:
وأول ملوك المسلمين: معاوية، وهو خير ملوك المسلمين.
15 ـ القاضي ابن العربي المالكي رحمه الله:
تحدث ابن العربيِّ عن الخصال التي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه ، فذكر منها: ... قيامه بحماية البيضة ، وسدِّ الثغور ، وإصلاح الجند ، والظهور على العدوِّ ، وسياسة الخلق ، وقال في موضع اخر من كتابه العواصم من القواصم: فعمر ولاه ، وجمع له الشَّامات كلّها ، وأقرَّه عثمان ، بل إنَّما ولاه أبو بكر الصِّديق ، لأنَّه ولى أخاه يزيد ، واستخلفه يزيد ، فأقرّه عمر ، فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه ، فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها! وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه... ، ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليٍّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم .
16 ـ يقول ابن تيمية رحمه الله:
واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة ، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك ، كان ملكه ملكاً ورحمة، وقال: فلم يكن من ملوك المسلمين خيراً منهم في زمان معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل ، وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن عبد العزيز، فقال: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه ، قال: لا والله في عدله.
17 ـ وقال الذهبي رحمه الله:
أمير المؤمنين ، ملك الإسلام. وقال: ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم ، وما هو بريء من الهَنَات ، والله يعفو عنه ، وحسبك بمن يؤمِّره عمر ثم عثمان على إقليم هو ثغر، فيضبطه ويقوم به أتم قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه... فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفرط حلمه وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه.
18 ـ وقال ابن كثير رحمه الله:
وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين... فلم يزل مستقلاًّ بالأمر في هذه السنة التي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو قائم ، وكلمة الله عالية ، والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في راحة وعدل ، وصفح وعفو وقال: كان حليماً وقوراً ، رئيساً ، سيداً في الناس ، كريماً ، عادلاً ، شهماً. وقال عنه أيضاً: كان جيد السيرة ، حسن التجاوز ، جميل العفو ، كثير الستر رحمه الله تعالى.
19 ـ قال ابن خلدون رحمه الله:
وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم؛ فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة.... والحق أن معاوية في عداد الخلفاء ، وإنَّما أَخَّره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين:
الأمر الأول: أن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدّمناه من العصبية التي حدثت لعصره ، وأما قبل ذلك فكانت اختياراً واجتماعاً ، فميَّزوا بين الحالتين. فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبيَّة الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك ، ويشبِّهون بعضهم ببعض ، وحاش لله أن يشبَّه معاوية بأحد ممَّن بعده؛ فهو من الخلفاء الراشدين، ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانيَّة ممن تلاه في المرتبة كذلك، وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس ، ولا يقال: إن الملك أدون رتبة من الخلافة ، فكيف يكون خليفة ملكاً ؟! واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتية المعبَّر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها ، وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوَّة ، فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيَّين ومَلِكيْن، كانا على غايـة الاستقامة في دنياهما، وعلى طاعة ربِّهما عز وجل.
ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبَّهته للاستكثار في الدنيا ، وإنما ساقه أمر العصبية بطابعها لمّا استولى المسلمون على الدولة كلّها، وكان هو خليفتهم، فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك، وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده، إذا دعتهم ضرورة الملك إلى استفحال أحكامه ودواعيه، والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار، لا الواهي ، فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، ومن خرجت أفعاله من ذلك فهو من ملوك الدنيا ، وإن سمّي خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني: في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد ، وعظيمهم معاوية ، فجعل مع أهل نسبه ، والخلفاء الأولون مختلفون الأنساب ، فجعلوا في نمط واحد ، وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريباً في الفضل.
وكلام ابن خلدون ليس على إطلاقه ، وفيه نوع من المبالغة؛ فهذه بعض أقوال علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن تلاهم في الثناء على معاوية رضي الله عنه ؛ فهو من ملوك المسلمين ومن خيارهم الذين غلب عدلُهم ظُلْمَهم، وما هو ببريء من الهنات ، والله يعفو عنه ، وهو على دين كما قال عن نفسه: يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات ، ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء.
ولقد تعرّض معاوية رضي الله عنه ودَوْلته ودولة بني أمية عموماً لسهام بعض الكتّاب ، وزعم بعضهم أنها دولة مدنية ، وقال بعضهم: إنها كانت دولة عربية ولم تكن دولة إسلامية؛ بل قال بعضهم: إنها دولة علمانية لا صلة لها بالدين ، ولا بالأخلاق ، وهذه فرية تكذبها حقائق الدين وشواهد التاريخ ، أما حقائق الدين ، فقد بدأت دولة بني أمية سنة 40 هـ من الهجرة ، واستمرت إلى سنة 132 هـ. فقد شملت القرون الثلاثة التي هي خير قرون الأمة: قرن الصحابة، وقرن التابعين ، وقرن أتباع التابعين، وهي التي جاءت بها الأحاديث الصحاح المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل حديث ابن مسعود: «خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم»، ومثله حديث عمران بن حصين: « خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم » قال عمران: لا أدري أذكر النبي بعد قرنين أو ثلاثة، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً قال: «يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيقال: نعم ، فيفتح. ثم يأتي زمان ، فيقال: فيكم من صحب من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيقال: نعم، فيفتح».
ومعنى قوله: «قرْني» أي: أهل عصري. وهم الصحابة ، ثم قرن التابعين ، ثم قرن الأتباع ، وبعض الشرّاح حددوا القرن بزمن ، فقال بعضهم: القرن أربعون سنة ، وبعضهم قال: ثمانون سنة. وبعضهم جعله مئة سنة ، وهو الذي اشتهر في الاستعمال الآن ، وأمسى حقيقة عرفية. وتكون القرون المفضلة والموصوفة بالخيرية على هذا: ثلاثمئة سنة. وهذا غير منسجم مع منطق الواقع التاريخي ، فالراجح تفسيره بِما ذكرنا ، من عصر الصحابة ، وعصر التابعين ، وعصر الأتباع.
ومن الأحاديث الصحيحة التي يستدل بها على منزلة الدولة الأموية من الإسلام: ما رواه البخاري في صحيحه عن خالد بن مهران: أن عمير بن الأسود العنْسي حدثه: أنه أتى عبادة بن الصامت ، وهو نازل في ساحة حمص ، وهو في بناء له ، ومعه أم حَرام (زوجه) قال عمر: حدثتنا أم حرام: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا». (أي: فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة) قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله ، أنا فيهم؟ قال: «أنتِ فيهم». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» ، ومدينة قيصر هي القسطنطينية ، عاصمة الدولة البيزنطية.
قال الشراح: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر ، وذلك في خلافة عثمان؛ ما زال معاوية يغريه بالغزو في البحر ، حتى استجاب له ، وبدأ الأسطول الإسلامي منذ عهد عثمان ، ثم اتسع وازداد في عهد معاوية ، وفي هذه الغزوة مات أبو أيوب الأنصاري وكان في هذا الجيش رضي الله عنه ، فأوصى أن يدفن عند باب القسطنطينية ، والذي يهمنا هو أن هذا الجيش المغفور له بالجملة ، كان في عهد بني أمية؛ إذ كانت هذه الغزوة سنة اثنتين وخمسين من الهجرة النبوية ، أي: في عهد معاوية.
ومن نظر في سيرة معاوية بعد أن آلت إليه الخلافة ، وبعد تنازل الحسن السبط رضي الله عنه له ، وتأمل هذه السيرة بإنصاف: وجد الرجل حريصاً على إقامة الإسلام في شعائره وشرائعه ، وعلى اتباع السنة النبوية في مجالات الحياة المختلفة.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf