الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

الدولة الأموية: عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

أهم صفات معاوية

الحلقة: الثانية والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020

اشتهر معاوية رضي الله عنه بصفات كثيرة؛ من أهمها:
1 ـ العلم والفقه:
استفاد معاوية رضي الله عنه من ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وتربية ، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيره قد ذكرتُ بعضها ، وقد روى له البخاري ومسلم مع شرطهما أن لا يرويان إلا عن ثقة ضابط صدوق.
وشهد له ابن عباس بالفقه ، فعن ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنّه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب؛ إنه فقيه. رواه البخاري. قال الشرّاح: أي مجتهد.
وفي رواية أُخرى للبخاري: عن أبي مليكة قال: أوتر معاوية رضي الله عنه بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس رضي الله عنهما ، فأتى ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: دَعْهُ فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما؛ من فضلاء الصحابة ، ويُلقّب: البحر ، لسعة علمه ، وحبر الأمة ، وترجمان القرآن، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة والتأويل ، فاستجيب له. وكان من خواص أصحاب علي رضي الله عنه، وشديد الإنكار على أعدائه، وأرسله علي رضي الله عنه ليحاج الخوارج، فحاجهم حتى لم يبق لهم حجة، فإذا شهد مثله لمعاوية بأنه مجتهد وكفَّ مولاه عن الإنكار مستدلاً بأنه من الصحابة ، فيكفيه ذلك مكرمة.
كما أنه كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر مفتي الحرمين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري في خلاصة السير: أن كتَّابه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر: الخلفاء الأربعة ، وعامر بن فهيرة ، وعبد الله بن أرقم ، وأبي بن كعب ، وثابت بن قيس بن شماس ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وحنظلة بن الربيع الأسلمي ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وكان معاوية وزيد ألزمهم لذلك وأخصهم به.
كما أن الفقهاء يعتمدون على اجتهاده، ويذكرون مذهبه كسائر الصحابة، كقولهم: ذهب معاذ بن جبل، ومعاوية، وسعيد بن المسيب إلى أن المسلم يرث الكافر، وقولهم: روي استلام الركنين اليمانيين عن الحسن أو الحسين، وصح عن معاوية. وقال أبو الدراء الصحابي لأهل الشام: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من إمامكم هذا ـ يعني معاوية.
وكان رضي الله عنه حريصاً على تعليم الناس العلم ، فعن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر حين أذن المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر ، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا ، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال معاوية: وأنا. فلما قضي التأذين قال: يا أيها الناس ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس ـ حين أذن المؤذن ـ يقول ما سمعتم مني من مقالتي.
وكان رضي الله عنه يحث الناس على الفقه في الدين ، ويروي لهم الأحاديث الدالة على أهمية التفقه في الدين ، فعن الزهري قال: أخبرني حميد قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، ويعطي الله ، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة. أو حتى يأتي أمر الله».
وكان رضي الله عنه يكاتب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعلم منهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليَّ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة ، فأملى عليَّ المغيرة ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد». وقال ابن جريج: أخبرني عدة أن وراداً أخبره بهذا. ثم وفدت بعد إلى معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول.
وكان رضي الله عنه حريصاً على اتباع السنة النبوية، فعن سعيد بن المسيب، وعن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أن معاوية لما قدم المدينة في آخر مقدمة قدمها، قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ يقول: «من شاء منكم أن يصومه فليصمه». وفي رواية: «وإني صائم»، فصام الناس ، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينهي عن مثل هذا. وأخرج قصة من شعر من كمه، فقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم ـ يعني وصل المرأة شعرها بشعر آخر ، وقد صح في عدد من الأحاديث لعن الواصلة والمستوصلة. وفي رواية أخرى: أنه قال لهم: إنكم أحدثتم ـ أي حدث سوء ـ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الزور). سماه الرسول زوراً لما فيه من التزوير والتغيير. فهنا نراه حريصاً على إحياء سنة كصوم عاشوراء الذي رأى أن الناس أهملوه ، كما نراه حريصاً على إماتة بدعة ظهرت في الناس ، وهي تقليد اليهوديات بوصل الشعر.
وروى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته ، وأنكحه عبد الرحمن ابنته ، وقد جعلا ـ أي: العقدين ـ صداقاً (أي: كل منهما صداق الأخرى) ، فكتب معاوية بن أبي سفيان ـ وهو خليفة ـ إلى مروان ، يأمره بالتفريق بينهما ، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو يراعي إقامة السنة في حياة الناس في الأمور كلها، أمور الفرد، وأمور الأسرة، وأمور الجماعة.
وكان رضي الله عنه لا يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بمناسبة اقتضته، فقد ورد أنه دخل على عبد الله بن الزبير وابن عامر ، فقام ابن عامر له ، ولم يقم ابن الزبير ، فقال معاوية: مَهْ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يَمثُل له عباد الله قياماً ، فليتبوّأ مقعده من النار».
وعن مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أن معاوية أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر من شعره ـ أي: في العمرة ـ بمِشْقَص ، فقلنا لابن عباس: ما بلغنا هذا إلا عن معاوية. فقال: ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متّهماً.
وكان رضي الله عنه يهتم بمذاكرة العلم ويحرص عليه ، فعن عبد الله بن الحارث قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه على السرير ، وفي تلك القصة سأله معاوية عن مسألة فقهية ، وكان رضي الله عنه يعلم الناس ويحثهم على سؤاله والاستفادة من علمه ، فقد خطب يوم جمعة وقال: أيها الناس اعقلوا قولي ، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني ، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة ، فلتقيمن وجوهكم وصفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطنهم الله عليكم ، فليسومونكم سوء العذاب ، تصدقوا؛ لا يقولنَّ الرجل: إني مقلٌّ. فإن صدقة المقلِّ أفضل من صدقة الغني ، إياكم وقذف المحصنات ، وأن يقول الرجل: سمعت.. وبلغني ، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسُئل عنها يوم القيامة.
وكان رضي الله عنه حريصاً على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل مكة سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة.
وله اجتهاد في تعيين ليلة القدر، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين.
وكان يعترف بالحجة والبرهان لغيره ، فعن ابن عباس: أنه طاف مع معاوية، وكان معاوية يستلم الأركان بالبيت، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان. فقال: ليس شيء من البيت مهجوراً، وجاء في رواية: فقال له ابن عباس: {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ} [الأحزاب: 21]، فقال معاوية: صدقت.
ومن الأحكام التي قضاها معاوية رضي الله عنه ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن معقل، قال: ما رأيت قضاء أحسن من قضاء قضى به معاوية: نرث أهل الكتاب ولا يرثونا ، كما يحل النكاح فيهم ولا يحل لهم.
ومن المسائل الفقهية التي أثرت عن معاوية رضي الله عنه:
أ ـ أثر عنه رضي الله عنه أنه أوتر بركعة.
ب ـ أثر عنه رضي الله عنه الاستقاء بمن ظهر صلاحه.
جـ أنه يجزئ إخراج نصف صاع من البر في زكاة الفطر.
د ـ استحباب تطييب البدن لمن أراد الإحرام.
هـ جواز بيع وشراء دور مكة.
و ـ التفريق بين الزوجين بسبب العُنَّة.
ز ـ وقوع طلاق السكران.
ح ـ عدم قتل المسلم بالكافر قصاصاً .
ط ـ حبس القاتل حتى يبلغ ابن القتيل.
وأما علومه في الفقه السياسي والسياسة الشرعية ، ومقاصد الشريعة ، وفقه الجهاد ، فالكاتب سوف يحدثنا عن الكثير من فقهه في إدارة الدولة وتحقيق أهدافها.

2 ـ الحلم والعفو:
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم ، وكان يضرب به المثل في حلمه رضي الله عنه ، وكظم غيظه وعفوه عن الناس ، وقد ذكر ابن كثير ما كان يتصف به أمير المؤمنين معاوية من الحلم؛ حيث قال: وقال بعضهم: أسمع رجلٌ معاويةَ كلاماً سيئاً شديداً ، فقيل له: لو سطوت عليه. فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي ، وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي ، وقال الأصمعي: عن الثوري قال: قال معاوية: إني لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي ، أو جهل أكبر من حلمي ، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشاً بالحلم ، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً ، وأرجع وهو لي صديق ، إن استنجدته أنجدني ، وأثور به فيثور معي ، وما وضع الحلم عن شريف شرفه ، ولا زاده إلا كرماً ، وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله ، وصبره شهوته ، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.
وسئل معاوية: من أسود الناس؟ فقال: أسخاهم نفساً حين يسأل ، وأحسنهم في المجالس خلقاً ، وأحلمهم حين يستجهل.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فما قَتَلَ السَّـــفَاهَةَ مــثلُ حِـــــلْمٍ يعـــودُ به على الجــــهلِ الحـــليمُ
فـلا تسْـــفَه وإن مـلِّئتَ غيـــــظاً عـــلى أحــــدٍ فإنَّ الفُحْــشَ لُـوْمُ
ولا تقطـــعْ أخــــاً لَكَ عندَ ذنــبٍ فــــإنَّ الذَّنْبَ يغفــرُهُ الكَـــرِيْمُ
وكتب معاوية إلى نائب زياد: إنه لا ينبغي أن يُساسَ الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيُحْمَلَ الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد باباً يدخل منه.
فهذه الأقوال المروية عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه تبين لنا شيئاً مما اشتهر عنه من الاتصاف بخلق الحلم ، وقد كان هذا الخلق همزة وصل بينه وبين من يعاملونه بشيء من الجفاء من أفراد رعيته ، أو يصارحونه بقوة بما يرونه حقاً وهو يخالفهم في ذلك ، وكان لتخلقه بخلق الحلم الذي لم يخالطه ضعف أثر في نجاحه في تثبيت أركان دولته ، وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين ، وتحويلهم إلى الرضا والقناعة بسياسته ، وهكذا تأتي مكارم الأخلاق التي من أهمها الحلم والعفو والصبر والكرم لتكون من أهم عناصر السيادة ، وقد أبان في هذه الأقوال بأن الحلم يخالطه شيء من الذلِّ كما أن النصر يخالطه شيء من العز ، ولكن أبدى سروره بذلك الذل لما يترتب عليه من النتائج الحميدة التي منها اكتساب الأصدقاء والأنصار.
وفي كتابه إلى زياد أمير العراق بيان لسياسته الجيدة التي تخيف المتهورين الميالين إلى إحداث الفوضى والإخلال بالأمن، ولكنها في الوقت نفسه تبعث الأمل لدى من يراجعون أنفسهم ويريدون سلوك طريق الاستقامة والسلامة.
ولقد أثنى على أمير المؤمنين معاوية حكماء عصره، وذكروا اتصافه بمكارم الأخلاق وخاصة الحلم، وفي ذلك يقول الحافظ ابن كثير: وقال عبد الملك بن مروان ـ يوماً ـ وذكر معاوية: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه، وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أعظم حلماً ، ولا أكثر سؤدداً ، ولا أبعد أناة ، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب بالمعروف من معاوية.
وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: لله در ابن هند ، إن كنا لنُفْرقه، وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا ، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه ، فيتخادع لنا ، والله لوددت أنا مُتِّعنا به ما دام في هذا الجبل حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس. وفي قول ابن الزبير هذا وصف دقيق لمعاملة معاوية لقادة المسلمين وسادتهم ، فهو جريء شجاع ، ولكن يظهر العكس عمداً ليصل من ذلك إلى عدم إثارة المخالفين، لأن إظهار الشجاعة يثير عنصر التحدي لديهم ، وهو أدهى أهل الأرض في زمانه ، ولكنه يظهر الانخداع أمام محدثيه ليصل إلى تجفيف منابع نقمتهم عليه ، وهو في ذلك كله يخدم هدفاً سامياً؛ وهو تحقيق حياة الرخاء والأمن للأمة الإسلامية ، ولقد تمنى ابن الزبير أن يطول عمر معاوية لأنه يخشى من تغير الأحوال من بعده.
ويصف حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سياسية معاوية بكلام موجز ، لكنه يعني خلاصة تفكير عميق؛ حيث يقول: قد علمت بِمَا غلب معاوية الناس ، كانوا إذا طاروا وقع ، وإذا وقع طاروا. وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها ، وإنما يفسح لها حتى تمر ، ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد ، وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا جذبوها أرخيتها ، وإذا أرخوها جذبتها.
ومن مواقفه في الحلم: أنه جرى بين رجل يقال له: أبو جهم ، وبين معاوية كلام ، فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْزٌ لمعاوية ، فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم ! إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد ، وإن قليله يغلب كثير الناس ، ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال ، فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية:
نمــيلُ علـى جـــوانبِهِ كـــــأنَّا نمــــيلُ إذا نمـــيلُ علــى أبينَـــا
نُقلِّبه لنخــــبرَ حــــــــالتَيْهِ فنخـــبرَ منهما كَـــرَماً ولـــينا
وهكذا كان لحلم معاوية رضي الله عنه وحسن خلقه ومبادلته الإساءة بالإحسان الأثر الكبير في نفس أبي الجهم، فقال هذين البيتين في الثناء على معاوية ، ولقد كان سلوك أمير المؤمنين معاوية تطبيقاً لقوله الله تعالى: {وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ ٣٤ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖ ٣٥} [فصلت: 34-35]
ونظراً لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة؛ فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه بقوله: دعوا فتى قريش وابن سيدها ، إنه لمن يضحك في الغضب، ولا يُنال منه إلا على الرضا ، ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه. فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية ، فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم، والعزة التي تجعله منيعاً لا ينال ما عنده على قهر منه ، وهذه الصفة من صفاته التي جعلت أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر.
وقال معاوية رضي الله عنه: العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد ، فإذا ذُكِّر ذكر ، وإذا أُعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا غضب كظم ، وإذا قدر غفر ، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز. ففي هذا الخبر جمع أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه درراً من الحكم ، وهي: الشكر عند الرخاء ، والصبر عند الابتلاء، والتحكم في السلوك عند الغضب ، والعفو عند المقدرة ، والوفاء بالوعد ، والاستغفار عند الإساءة ، فهذا الخبر على قصره قد جمع ستة موضوعات ، كل موضوع يحتاج إلى أن يكتب عنه في صفحات ، وهذا من جوامع الكلم ، وهو يعتبر من أعلى أنواع البلاغة ، وذلك في جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة ، وقد اشتهر في هذا البيان عدد من الصحابة رضي الله عنهم تتلمذوا في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم.

3 ـ الدهاء والحيلة:
ومن الصفات التي تميز بها معاوية رضي الله عنه صفة الدهاء والحيلة ، ومما يروى من دهائه وحسن إدارته وتدبيره، أن المسلمين غُزوا في أيامه فأُسر جماعة منهم ، فوقفوا بين يدي ملك الروم بقسطنطينية ، فتكلم بعض أسارى المسلمين ، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك؛ فلطم حرّ وجهه ، وكان رجلاً من قريش فصاح: وا إسلاماه ! أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا وحكَّمت العدو في دمائنا وأعراضنا؟! فنمى ذلك الخبر إلى معاوية ، فآلمه وامتنع من لذيذ الطعام والشراب ، فخلا بنفسه ، وامتنع عن الناس ولم يظهر ذلك لأحد من المخلوقين ، ثم أعمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم ، إلى أن فدى ذلك الرجل ، ومن أسر معه من المسلمين ، فلما صار الرجل إلى دار الإسلام ، دعاه معاوية فبره وأحسن إليه ، ثم قال له: لم نهملك ، ولم نضيعك ، ولا أبحنا دمك وعرضك.
ومعاوية أثناء ذلك يدبِّر الرأي ويعمل الحيلة ، ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور ، وكان عارفاً كثير الغزوات في البحر ، صُمكّ من الرجال ، مرطان بالرومية ، فأحضره وخلا به ، وأخبره بما قد عزم عليه وسأله إعمال الحيلة فيه ، والتأني له ، فتوافقا على أن يدفع للرجل مالاً عظيماً ، ليبتاع به أنواعاً من الطرف والملح والجهاز من الطيب والجوهر وغير ذلك ، وأنشأ له مركباً لا يلحق في جريه سرعة ، ولا يدرك في سيره ، إنشاءً عجيباً ، فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجة للملك ، وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية ، قاصداً إلى الملك وخواصه بذلك ، فروسل الملك بشأنه ، فأذن له ، فدخل خليج القسطنطينية ، فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته ، وبايعهم وشاراهم ، وقصدهم ، إلا ذلك البطريق الذي لطم القرشي ، وتأنى الصوري من الأمور على حسب ما رسمها له معاوية.
وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام ، وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها ، وأنواعاً من الأمتعة وصفوها ، فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سراً ، وذكر له من الأمر ما جرى ، فابتيع له ما طلب منه ، وما علم أن رغبتهم فيه ، وتقدم إليه معاوية فقال: إن ذلك البطريق إذا عدت في كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره، واستعانتك به ، فاعتذر إليه ولاطفه بالقول والهدايا ، واجعله القيم بأمرك ، والتفقد لأحوالك تزداد عندهم ، فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به ، وعلمت ما غرض البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه ، فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب؛ زادت منزلته ، وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية ، فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك ، قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك ، وقال له: ما ذنبي إليك؟ وبم استحق غيري أن تقصده ، وتقضي حوائجه وتعرض عني ؟ قال الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب ، وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين ، وجواسيسهم؛ لئلا يَنِمُّو خبري ويوشوا بأمري إلى المسلمين فيكون في ذلك بواري ، والآن فإذا قد علمت ميلك إليَّ فلست أحب أن يعتني بأمري سواكَ ، ولا يقوم بحالي عند الملك وغيره غيرك ، فمرني بحوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإسلام. وأهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب.
ولم يزل هذا فعله ، يتردد من الروم إلى معاوية ، ومن معاوية إلى الروم ، ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج الجليلة ، والحيلة لا تتوجه إلى معاوية ، حتى مضى على ذلك سنين ، فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري ، وقد أراد الخروج إلى دار الإسلام: قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة ، وتمنَّ بها عليَّ ، وهي أن تبتاع لي بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده ، ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها ، ويكون من صفة كذا وكذا ، ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ ، فأنعم له بذلك ، وكان من شأن الصوري أن يكون مركبه إذا ورد القسطنطينية بالقرب من موضع ذلك البطريق ، وكان للبطريق ضيعة سرية ، وفيها قصر مشيد ، ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبه على الخليج ، وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه ، وكانت الضيعة فيما بين قسم الخليج مما يلي بحر الروم والقسطنطينية ، فانصرف الصوري إلى معاوية سرّاً ، فأخبره بالحال ، فأحضر معاوية بساطاً بوسائد ومخاد ومجلس حسن ، فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام ، وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة ، وكيفية إيقاعها ، وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة والعشرة ، وفي الروم طمع وشره ، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية ، وقد طابت له الريح ، وقرب من ضيعة البطريق ، أخذ الصوري أخبار البطريق من أصحاب القوارب والمراكب ، فأخبر أن البطريق في ضيعته ، وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمئة وخمسين ميلاً ، والضياع والعمائر على حافتيه ، والمراكب والقوارب تختلف بأنواع المتاع والأقوات إلى القسطنطينية من هذه العمائر ، بحيث لا تحصى كثرة.
فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته ، فرش البساط ونضَّد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه ، والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها ، ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله ، والريح في القلع ، والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه ، فأشرفه على قصر البطريق ، وهو جالس في مستشرفه مع حرمه ، وقد أخذت منه الخمر ، وعلاه الطرب ، وذهب به الفرح والسرور كل مذهب ، فلما رأى البطريق مركب الصوري زعق طرباً ، وصاح فرحاً وسروراً وابتهاجاً بقدومه ، فدنا من أسفل القصر فحط القلع ، وأشرف البطريق على المركب فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط ، ونظم تلك الفرش ، كأنه رياض يزهر ، فلم يستطع اللبث في موضعه ، حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه ، فطلع إلى المركب ، فلما استقر قدمه على المركب ودنا من المجلس ، وضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب ، فما استقر دقه في المركب بقدمه ، حتى اختطف المركب ، بالمقاذيف ، وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء ، وارتفع الصوت ولم يدرِ ما الخبر لمعالجة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط البحر ، وقد أوثق البطريق كتافاً ، وطابت له الريح ، وأسعده الجد، وحمله المقدار في ذلك اللج ، فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام ، ورأى البر ، وحمل الرجل فكان في اليوم الثالث عشر مأسوراً بين يدي معاوية.
فسر بذلك معاوية. وقال: عليّ بالرجل القرشي ، فأتى به وقد حضره خواص الناس ، فأخذوا مجالسهم ، وغص المجلس بأهله ، فقال معاوية للقرشي: قم فاقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظم الروم، فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك، فقام القرشي فدنا من البطريق ، فقال معاوية: انظر لا تتعدى ما جرى عليك ، واقتص منه على حسب ما صنع بك ولا تعتدِ ، وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة ، فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه ، ثم أكب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها ، وقال: ما ضاع من سوَّدك، ولا خاب فيك من رأسك ، أنت ملك لا يستضام؛ تمنع حماك ، وتصون رعيتك... وأرق في وصفه ودعائه.
وأحسن معاوية إلى البطريق ، وخلع عليه وبرّه ، وحمل معه البساط ، وأضاف إلى ذلك أشياء كثيرة وهدايا إلى الملك ، وقال له: ارجع إلى ملكك ، وقل له: تركت ملك المسلمين يقيم الحدود على بساطك ، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك وعزك ، وقال للصوري: سر معه حتى تأتي الخليج فتطرحه فيه ومن أسر معه ، ممن كان بادر فصعد إلى المركب من غلمان البطريق ، وخاصته ، فحملوا إلى صورٍ مكرمين ، وحمل الجميع في المركب ، وطابت لهم الريح ، فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين بأرض الروم ، فقربوا من الخليج ، فإذا قد أحكم فمه بالسلاسل والمنعة من الموكولين به ، فطرح البطريق ، وحمل من وقته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة ، وتباشرت الروم بقدومه ، وتلقوه مهنئين له بخلاصه من الأسر ، فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله في أمر البطريق والهدايا ، فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه ، وقال الملك:
هذا أدهى العرب وأمكر الملوك، ولهذا قدمته العرب عليها، فأساس أمورها، ولو هَمَّ بأخذي لتمت له الحيلة عليَّ.
وهذه القصة دليل على دهاء معاوية رضي الله عنه وحسن سياسته واهتمامه بأمور رعيته ، والمحافظة على حقوق كل فرد فيها وصيانة كرامته.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022