الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)

(اهتمامات معاوية رضي الله عنه العلمية)

الحلقة: الخامسة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020

كان معاوية رضي الله عنه يشجع الولاة والعلماء وأبناء الأمة على إيجاد نهضة ثقافية حضارية، وشهد عصره نهضة في التفسير وعلوم القران والفقه والعقيدة، وتألَّق فيه نجم عديد من العلماء الذين ظل المسلمون بعد ذلك يأخذون من علومهم ويستشهدون بأقوالهم واجتهاداتهم، كابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، وغيرهم، وكانت العلوم الرئيسة هي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغة العربية، واهتم معاوية  بغيرها من العلوم أيضاً؛ منها:
1 ـ اهتمام معاوية بالتاريخ:
كان معاوية رضي الله عنه الراعي الذي عمل على أول تدوين باللغة العربية للتاريخ بمعناه العام لا على أنه المغازي النبوية وقصص الأنبياء ، ولا على أنه الأنساب ، وأيام العرب ، ولكن على أنه تاريخ الأمم السالفة ، وسير الملوك والحروب ، وأنواع السياسات مما هو جدير بالقراءة على الملوك ، فقد كان ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد ، فيقرأ ذلك غلمان له مرتبون ، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها ، فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار والاثار وأنواع السياسات.
وقد استدعى معاوية عبيدة بن شربة ـ وهو أحد علماء التاريخ البارزين في بلاد اليمن ـ إلى دمشق ، وسأله عن أخبار القدماء وملوك العرب والعجم ، وأمر معاوية كتّابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيدة بن شربة: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك ، وأخبار الماضين ، ولم يكن عبيدة هذا هو العالم الوحيد الذي استقدمه معاوية إلى دمشق فكتب عنه روايات وصيرها كتباً ، بل إن كثيراً من الأخباريين أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين وفدوا على معاوية أيضاً، والدرس البالغ الأهمية يظهر في أهمية التاريخ للساسة والحكام والملوك والزعماء، فالسياسي المستوعب لحركة التاريخ وسننه ينجح في ميدان عمله أكثر من غيره، فهناك علاقة متينة بين التاريخ والسياسة.
2 ـ اهتمام معاوية بالشعر واللغة:
كان معاوية رضي الله عنه يدرك أهمية الشعر ، تواقاً له ، ولم يغب عن حسه أهميته في الدعاية السياسية للدولة ، وكان يهتم بتربية أبنائه وأبناء أخيه على تعلم ومعرفة وتذوق الشعر ، فقد كتب إلى زياد: أن أوفد إليَّ ابنك ، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه ، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً ، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان ، فقال معاوية: اغرب ! فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا ابن طنابة ، حيث قال:
أبــتْ لي عِفَّـــتي وأبـــى بـــلائِي وأخـــذي الحَـــمْدَ بالثمــنِ الربيحِ
وإعـــطائي على الإعـــدامِ مــــالي وإقدامـــي على البطــلِ المشـــيح
وقـــولي كلما جشــأتْ وجاشـــتْ مكانَكِ تُحـــمدي أو تســتريحــي
ثم كتب إلى أبيه: أن روِّه الشعر ، فرواه حتى كان لا يسقط عنه شيء منه، وكان معاوية رضي الله عنه يتمثل بهذه الأبيات كثيراً:
فمــا قَتَـلَ السَّـــفَاهَةَ مثـلُ حـــلمٍ يعــودُ بِـــهِ على الجــهلِ الحــليمُ
فـلا تَسْـــفَهْ وإن مُــلِّئتَ غيــــظاً على أحـــدٍ فإن الفحـــشَ لـــومُ
ولا تقطــعْ أخـــــاً لَكَ عندَ ذنــبٍ فإنَّ الـذنبَ يغفــــرُهُ الكــــريمُ
ومن اهتمام معاوية بالشعر حفظه له ، فقد دخل ذات يوم على معاوية في مجلسه ابن أبي محجن الثقفي فقال له معاوية: أبوك الذي يقول:
إذا مــتُّ فادفنِّي إلى جـــنبِ كَـــرْمةٍ تُرَوِّي عظامــي بعد مـــوتي عُرُوقُـــها
ولا تدفننَّـــي بالفـــــلاةِ فإنَّـــني أخـــافُ إذا ما مـــتُّ أن لا أَذُوقــها
فقال ابن أبي محجن: لو شئت ذكرتُ أحسن من هذا من شعره؛ قال: وما ذاك؟ قال: قوله:
لا تســـأل الناسَ: مــالي وكــــثرته وســـائل القومَ ما حزمي ومــا خــلقي
القومُ أعلـــمُ أَنِّي مـــن ســـراتِهِمُ إذا تَطِيـــشُ يَدُ الرِّعـــديد الفَـــرِقِ
قد أركـــبُ الهوْلَ مســدولاً عسـاكره وأكتُم السِّـــرَّ فيه ضـــربةُ العُنُـــقِ
وهو القائل:
إنْ يكـــنْ ولَّـــى الأمـــــيرُ فَقَدْ طـــابَ منـــه النَّجْــلُ والأَثَـــرُ
فيكــــم مســــتيقظٌ فَهِــــمٌ قُـــلْقُلانٌ حَـــــيَّةٌ ذكـــــرُ
أحــــــمدُ اللهَ إليـــكَ فمـــا وصــــــلةٌ إلا ســــــتنبترُ
وكان الشاعر مسكين الدارمي من المقربين من معاوية وابنه ، فقد سأل معاوية عنه عطارد بن حاجب ، وقال له: ما فعل الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان ـ يعني مسكيناً ـ؟ فقال: صالح يا أمير المؤمنين ، قال: أعلمْهُ أني قد فرضت له ، فله شرف بالعطاء وهو في بلاده ، فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل ، فإنّ عطاءه سيأتيه ، وبشّره بأن قد فرضت لأربعة الاف من قومه من خِنْدِف، وهذا الشاعر هو القائل في معاوية رضي الله عنه:
إلـيــكَ أميـــرَ المؤمنينَ رَحَـــــلْتُها تُثيرُ القَــــطَا ليلاً وَهُــــنَّ هُـجُودُ
على الطائرِ الميمــونِ والجـــدُّ صـــاعدٌ لكلِّ أنــــاسٍ طــــائرٌ وجـــدودُ
إذا المنــبرُ الغــربيُّ خـــلّى مكـــانَهُ فـــإنَّ أميـــرَ المؤمنينَ يزيــــدُ
ويقال: إن معاوية أمر مسكين الدارمي أن ينظم قصيدة في البيعة ليزيد ، وبعد أن أنشد قصيدته ، وكان بنو أمية وأشراف الناس حاضرين؛ لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة... ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته، ويعتبر مسكين الدارمي من شعراء عهد معاوية ، وممن ترك أبياتاً جميلة ، منها قوله:
وإذا الفاحـــشُ لاقـــى فاحــــشاً فهناكُـــم وافَقَ الشــــنُّ الطَبَـــقْ
إنما الفُحــــشُ ومـــن يعــــتادُه كغرابِ السَّـــوءِ ما شـــاء نَعَـــقْ
أو حـــمارِ السَّـــوْءِ إن أشـــبعتَهُ رَمَـــــحَ النَّاسَ وإن جــــاعَ نَهَقْ
أو غـــلامِ السَّـــوءِ إن جــــوَّعْتَهُ سَــــرَقَ الجـــارَ وإن يُشْــبَعْ فَسَقْ
أو كَــغَيْرى رَفَعَتْ مـــن ذَيْلِــــها ثم أَرخَــــتْهُ ضِـــراراً فامَّــــزَقْ
أيهــا السَّـــائلُ عمَّــن قد مضــى هـل جـــديدٌ مثلُ ملبوسٍ خَــــلَقْ
وهو القائل:
نـــاري ونارُ الجـــارِ واحــــدةٌ وإليـــه قبلـــي تُـنَزَّلُ القِــــدْرُ
ما ضـــرَّ جـــاراً لي أُجــــاورُهُ أَلاَّ يكــــون لبابِــــهِ سَــــتْرُ
أعمـــى إذا ما جـــارَتي بَـــرَزَتْ حـــتى يُغَيِّب جــــارتي الخِــدْرُ
وكان معاوية رضي الله عنه يستنكر اللحن ، فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه ، فكتب إليه معاوية: إن ابنك كما وصفت ، ولكن قوِّم من لسانه.
ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث ، فقال: إنّ أبونا لما مات وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله؛ فأفأ زياد، فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك.
وقد برز في البصرة في عهد معاوية كثير من النحويين؛ فكان أبو الأسود الدؤلي أول من وضع أساس النحو في البصرة ، وكان أول من استَنَّ العربية ، وفتح بابها ، وأنهج سبيلها ، ووضع قياسها ، فكان سراة الناس يلحنون ووجوه الناس ، فوضع باب الفاعل ، والمفعول به ، والمضاف ، وحرف الجر والرفع والنصب والجزم، وألف كتاباً في النحو وكان شاعراً ، ومن أشهر أبياته قوله:
يــا أيها الرجــلُ المعلِّمُ غــــــيرَهُ هـــلاَّ لنفســـكِ كـــانَ ذَا التَّعْليمُ؟
تصفُ الدواءَ لذي السِّـــقامِ وذي الضَّـنى كــيما يصـــحَّ به وأنتَ ســــقيمُ
ونراكَ تُصْلِـــحُ بالرَّشَـــادِ عقــولَنا أبـــداً وأنتَ من الرَّشــــاد عــديمُ
ابدأ بنفســـك فانهَـــها عــن غيّها فإذا انتهــتْ عـــنه ، فأنْتَ حـــكيمُ
فهناك يســـمعُ ما تقــــول ويهتدي بالقـــولِ منـــكَ وينفــــعُ التَّعْلِيمُ
لا تنــــهَ عــن خــلقٍ وتأتي مثـلَهُ عــــارٌ عليك إذا فعلتَ عظيـــمُ
وله في الزهد المبرأ من الكسل؛ كقوله:
وإذا طلبتَ مـــن الحــوائجِ حــاجةً فــــادعُ الإلهَ وأحســـنِ الأعــمالَ
فليعطينَّـــكَ مـــا أراد بقـــدرةٍ فهــــو اللطـــيفُ لِمَــا أرادَ فِعالا
ودعِ العبـــادَ وشــــأنَهُمْ وأمورَهُم بِيَدِ الإلــــه يقلِّبُ الأحـــوالَ
3 ـ اهتمام معاوية بالعلوم التجريبية:
ورثت الدولة الأموية علوم الأعاجم من الفرس والروم بعد انهيار دولتهم ، وكان لا بد ـ للإفادة من ذلك التراث ـ من ترجمته ونقله إلى العربية بعد أن غدا تراثاً تقليدياً تداولته أيدي الشارحين والمحترفين ممن أجادوا اليونانية أو السريانية ، وقد كان بعض هذه الترجمات حافزاً على الاهتمام بالعلوم التجريبية ، وربما كان العكس صحيحاً أحياناً.. ومعلوم أن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير تعجز عنه إمكانات الأفراد العاديين ، ولذا فقد وقف الأمويون يشجعون على ذلك حتى تحققت أعمال جيدة ـ على نحو ما سنرى بإذن الله ـ كانت بداياتها من عهد معاوية؛ فقد كان سبَّاقاً إلى رعاية العلوم وأهلها ، فأنشأ بيتاً للحكمة؛ أي: مركزاً للبحث ، ومكتبة ، واستمر المروانيون يعنون بهذا البيت حتى في أسفارهم وحروبهم يسألون عنه ويهتمون به.
ويشير بعض المؤرخين إلى دور ابن أثال النصراني طبيب معاوية في نقل بعض معارف الطب إلى العربية ، على أن بداية الجهود الحقيقية في الترجمة بدأت مع خالد بن يزيد أول من عني بنقل الطب والكيمياء إلى العربية ، فقد أمر بإحضار جماعة من اليونانيين ممن درسوا بمدرسة الإسكندرية في مصر ، وتفصَّحُوا بالعربية كذلك ، فطلب منهم نقل كثير من الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي ، وكان هذا أول نقل في الإسلام، كما طلب منهم أن يترجموا كتب جالينوس في الطب ، فوضع بذلك أساس العلوم الطبية، وهو أول من أعطى التراجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة ، وترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء ، والحروب والآلات والصناعات ، وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة الإسلام ، ففي دمشق إذن أنشئت أول دار للكتب في العالم الإسلامي.
وقد ظهرت دلائل كثيرة تدل على تزايد عدد المشتغلين في الطب في عهد معاوية؛ بحيث أصبحت النسبة: طبيب لكل 534 خمسمئة وأربعة وثلاثين فرداً ، وهذه النسبة تمّ أخذها مما أورده ابن كثير من أن زياد بن أبيه والي البصرة حينما طعن في يده جمع مئة وخمسين طبيباً ليداووه ، وكان عدد سكان البصرة ثمانين ألفاً تقريباً.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022