السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
يقول الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلومًا جهولاً) سؤالي هو: من الذي يمثل الإنسان هل هو أبونا آدم عليه السلام؟ ثم انه لم تعرض عليّ هذه الأمانة لكي أقبل بتحملها أو أرفضها كما فعلت السماوات مثلا، والله عز وجل يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أرجو كشف هذه الشبهة التي يوسوس لي بها الشيطان.. علما أنني أستفسر ولست معترضًا.. وجزاكم الله خيرا..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أخي السائل الكريم:
بداية شكر الله لك حرصك على تدبر القرآن، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم معانيه والعمل بها، وأن يكون القرآن أعظم داع لليقين وإزالة الشكوك التي يطرحها الشيطان في قلب صريح الإيمان، فيسعى لإزالتها بالحق المبين والحجة الدامغة.
وبالتأمل في هذا العرض الذي كان على السماوات والأرض والجبال وآدم هناك مسائل:
الأولى: معنى العرض التخيير أي: فلا مانع من الرفض؛ لأنه عرض لا معصية في عدم قبوله، ولذا لم يكن على هذه المخلوقات عقوبة.
الثانية: ينبغي ملاحظة أن هذا العرض -وهو تحمل هذه الأمانة- عليه وعد من الله جل وعلا بالأجر العظيم الدائم والخلود في الجنة، وعليه وعيد -عند خيانتها- بالعقوبة الشديدة بحسب التقصير فيها كثرة وقلة.
الثالثة: غلّبت المخلوقات العظيمة -السماوات والأرض والجبال- الخوف من حمل هذه الأمانة والتكاليف ولم تقبل التخيير بحملها، بل رفضنها خوفا من التقصير.
الرابعة: غلّب أبونا آدم عليه السلام الرجاء، فقد رجا من نفسه الوفاء والقيام بهذه الأمانة، بالقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه؛ لما نظر إلى نفسه ومنة الله عليه بالسمع والبصر والعقل والقدرة على الصبر والتحمل؛ لما يرجو من ثواب الله الكريم.
الرابعة: بذل آدم عليه السلام من جهده وجاهد نفسه على القيام بأمر الله، ووقع في الخطيئة هو وزوجه فبادرا إلى التوبة والاستغفار "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين"، وقد تاب الله سبحانه على آدم في قوله: "ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" فرفع الله آدم بل صار نبيا كريما، وهو من أهل الجنة المكرمين بلا ريب.
الخامسة: كان من عاقبة تحمل الأمانة تكريم الله تعالى لآدم وذريته وتسخير المخلوقات لهم: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، وأعظم التكريم تسخير الكون له "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه"...الخ.
السادسة: ما وقع لآدم من قبوله حمل الأمانة لم يكن وزرا وإثما –كما ظننت- بل كان ذلك منه طمعا في الخير والثواب الجزيل من الله تعالى، ولذا فاستدلالكم بقوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" لا محل له؛ لأنه لا إثم في تحمل هذه الأمانة لما كان راجيا أن يقوم بها وعالما أنها ليست مستحيلة.
السابعة: قبول آدم لها دليل على علمه بما يليق بالله من رحمة وعدل وفضل: فمعاذ الله أن يكلف عبده بما لا يطيق ثم يعاقب عليه، بل هو سبحانه لا يحاسب من لم تبلغه الدعوة: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"، وهو سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها، فرفع القلم عن الصغير والمجنون والنائم، وأباح للمضطر ما كان حراما، وخفف على المريض والمسافر، وجعل الثواب عل الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وحساب السيئة بمثلها، وإذا تاب غفر وتجاوز بل وأبدلها حسنة..الخ من الفضائل الإلهية على من أقبل على مولاه.
الثامنة: لما قبل آدم تحمل الأمانة –وهذا هو الذي كتبه الله قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهو عالم بذلك كله قبل هذه الكتابة أيضا – صار لازما ذريته لا فكاك لهم عنها، ولم يزل أهل الخير من الأنبياء وأتباعهم يدعون لحمل هذه الأمانة حتى آخر الدنيا، ولم يكن لذرية آدم فكاك عن هذه الأمانة بل الله عز وجل قد كتب هذا العرض وهذا القبول من آدم، وألزم به ذريته، وإلا فكيف يكون العمل مع الرسل الذين بعثوا بعده حيث يأمرون أقوامهم بعبادة الله وحده وترك الشرك وهو أساس الأمانة، وقد فرض الله طاعتهم وأنزل عقوبته بمن تخلف عن حمل الأمانة في الدنيا والبرزخ والآخرة.
التاسعة: وهذه الأمانة يقدر عليها كل ذرية آدم، من حيث حواسهم وبلوغ الدعوة لهم، فكان من رحمة الله أن بين هذه الأمانة وما يساعد على قبولها بالآيات الكونية الدالة عليه، وبالفطرة التي فطر عليها كل مولود وهو القبول بعقيدة التوحيد قبل فساد الفطرة، ولم يكن هذا فقط فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين وبينها بالآيات الشريعة التي أنزلها من الكتب الواضحة الهادية الفارقة بين الحق والباطل.
العاشرة: في قوله تعالى: "إنه كان ظلوما جهولا" لعل هذا الموضع من الآية هو الذي قوى الشبهة عندك في لوم آدم عليه السلام، وهو بعيد من هذا؛ لأنه لم يكن بهذا الوصف، فمرجع الضمير من قوله: (إنه) عائد على ذرية آدم؛ على الصحيح لا على آدم؛ لأن آدم كان مستقيما موحدا عالما عاملا.[يراجع أضواء البيان للشنقيطي وذكر بعض الأمثلة المشابهة لهذا الضمير].
الحادية عشرة: انقسمت ذرية آدم ثلاثة أصناف: ذكرت في الآية التالية: "لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا". قال السعدي: إلى ثلاثة أقسام:
- منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا.
- ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا.
- ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
الثانية عشرة: قوله "وكان الله غفورا رحيما" بعد ذكره الأصناف الثلاثة دال على تمام مغفرة اللّه، وسعة رحمته، وعموم جوده، مع أن المحكوم عليهم، كثير منهم، لم يستحق المغفرة والرحمة، لنفاقه وشركه"ا.هـ
فهو سبحانه لم يزل راحما لهم مرجئا لهم العقوبة حتى يتوبوا "وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب".
وهو غفور رحيم لمن تاب من المنافقين والمشركين، ما دامت توبتهم في الدنيا محل التكليف بشرطين: قبل غرغرة الروح وقبل طلوع الشمس من مغربها، حتى ولو أكثروا من الإساءة والفجور، "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم".
الأخيرة: لم تكن الأمانة خاصة بآدم وذريته بل حتى الجن كذلك مكلفون بالأمانة، قال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [الذاريات56] وقال تعالى: "يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا". [ الأنعام: 130].
وفي نهاية هذا التأمل: يقرب من هذا العرض الذي اختاره آدم عليه السلام ما جاء من تقرير آدم وذريته على توحيد الله تعالى وترك الشرك -وهو أساس التكليف والأمانة -، وذلك في قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" [الأعراف:172-173] وعن سعيد بن جبير عند قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: سألت عنها ابن عباس، فقال: مسح ربُّك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان هذه =وأشار بيده=[مكان بجنب عرفة] فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربكم قالوا بلى). وإسناده صحيح.وهذا على أحد المعاني في الآية وهو الأظهر. والله أعلم.