(دور العصبية في سقوط الدولة الأموية)
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 274
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1442 ه/ أغسطس 2021
مارس العديد من خلفاء بني أمية الخطيئة القاتلة؛ حيث أشعلوا نار العصبية القبلية وزادوا إضرامها بالتزام هذا الجانب القبلي أو ذاك ، الأمر الذي فتت قاعدتهم في بلاد الشام نفسها وشطرها شطرين ، أحدهما: قيسي ينتمي إلى عرب الشمال ، والاخر: يمني ينتمي إلى عرب الجنوب ، وقد سعى معاوية المؤسس مُنذ البدء إلى تلافي هذه المعضلة ، ونجح في ذلك إلى حد كبير ، ولكن أعقابه وبخاصة السلالة المروانية التي تسلمت السلطة عام 46 هـ على يد مروان بن الحكم كانت في أعقاب تلك المعركة القبلية العنيفة بين اليمانيين والقيسيين ، والتي عرفت باسم مرج راهط.
هذه الأسرة مارس معظم خلفائها سياسة قبلية واضحة أخذت تتصاعد يوماً بعد يوم ، وامتدت تأثيراتها إلى كافة الأقاليم وإلى سائر مساحات الحياة الإدارية والسياسية والاقتصادية ، فكانت أحد العوامل الخطيرة في تدمير الوجود الأموي في نهاية الأمر ، ومنذُ وفاة هشام بن عبد الملك عام (125 هـ) وحتى سقوط الدولة الأموية عام (132 هـ) أخذت الأفعال وردود الأفعال القبلية تتصاعد وتزداد استشراء ، وكانت من بين الثغرات العديدة التي نفذت منها الدعوة العباسية لتحقيق أهدافها ، انحاز الوليد بن يزيد بن عبد الملك (125 هـ 126 هـ) إلى القيسية ، وشدّد الخناق على اليمانية ، فثاروا عليه وحرضوا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك على البيعة لنفسه ، وتمكنوا أخيراً من قتله وتحقيق هدفهم بمبايعة يزيد بن الوليد الذي ما لبث أن وجد نفسه مضطراً لإخماد فتنة القيسية في أماكن متعددة من الشام وفلسطين ، كما اعتقل عدداً من قادتهم ، فلما توفي في هذا العام نفسه تولى الخلافة من بعده أخوه إبراهيم ، إلاَّ أن هذا لم يلبث في الحكم سوى أشهر معدودات ، إذ تحرك ضده مروان بن محمد بأنصاره القيسيين وتمكن من هزيمة قواته من اليمانيين قريباً من دمشق ، الأمر الذي دفعهم إلى سلسلة من الأعمال الانتقامية ضد القيسيين في دمشق ، لكن مروان ما لبث أن دخل دمشق وأخمد فتنتها ، لكنه لم يأمن على نفسه الإقامة فيها لكثرة اليمانية فانتقل إلى حّران.
إلا أن انتصار مروان لم يحسم معضلة الصراع بين القيسية واليمانية ، بل زادها اشتعالاً ، وما لبثت نارها أن امتدت إلى كافة أنحاء الدولة ، فثارت اليمانية في حمص والغوطة وفلسطين ، وتمكن مروان من إخماد هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى لكن بعد أن كلّفه ذلك غالياً. كما انتشرت الصراعات القبلية في المغرب والأندلس.
أما العراق فقد شهد الصراع نفسه بين الجماعتين لولا أن جدّ من استشرائه تفاقم أمر عدو مشترك هو الخوارج ، وأما في خراسان فقد استفحل الأمر بين الطرفين ، وبلغ نقطة اللاعودة رغم بعض المحاولات التي سعت لوقف الانهيار ، وقد استمر هذا الصراع سنين عديدة ، خندق كل من الطرفين إزاء الاخر دون أن يتمكن أحدهما من أن يطوي الاخر ، الأمر الذي مكّن للدعوة العباسية من أن تثبّت نفوذها هناك ، وتتحفز للانقضاض على الخلافة الأموية.
وقد بقي أبو مسلم الخراساني شهوراً لا يجرؤ على الاستيلاء على مرو قاعدة خراسان ، لكنه أخذ يحتل المواقع المحيطة بها مستغلاً الصراع بين اليمنيين والقيسيين ، وحاول نصر بن سيار مرة أخرى تحقيق الوفاق بين الطرفين دون جدوى ، بينما كان أبو مسلم يذكي العداء بين نصر والكرماني ، ونزل في خندق ثالث بين خندقيهما ، واستطاع أبو مسلم من تحقيق هدفه المرتجى ، ودخل مرو سنة 130 هـ ، وكان ذلك البداية الحقيقية لنجاح الدعوة العباسية وانهيار الأمويين.
إن الإسلام يحرم العصبية التي تؤدي إلى التناحر والصراع وتتحكم في الأفراد والجماعات والأمم ، تدفعهم نحو القتال بدون وجه حق ، فالعصبية مصادمة لنصوص القران الداعية إلى الوحدة الائتلاف[(591)] ، قال تعالى: [ال عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} ، وقال تعالى: [ال عمران: {وَلاَ َكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية». ودعوى الجاهلية ندب الميت ، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية.
إن قصة الدولة الأموية تملك دلالتها المعاصرة ، فحين تكون الدولة حكراً على فئة معينة من مجتمعها ، فإنها تضع أساس عدم استقرارها السياسي وتهديد هويتها الفكرية وانقسام قاعدتها الاجتماعية والسياسية ثم زوالها.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: