الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 177

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م

‌أ- {أَلَمْ تَرَ}:

الهمزة للاستفهام، والمراد به هنا التقرير والتعجب، و"التقرير" يعني تقرير هذا الأمر، وأنه حاصل؛ و"التعجب" معناه: دعوة المخاطب إلى التعجب من هذا الأمر العجيب الغريب الذي فيه المحاجة لله عزّ وجل(1).

وقد جاءت {أَلَمْ تَرَ} على معنى: أنت رأيت، والرؤية تكون بالعين، فهل رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - وهو المخاطب الأول بالقرآن الكريم من ربه - هل رأى رسول الله هذه الحادثة أيام إبراهيم - عليه السّلام -؟ طبعاً لا، فكأن {أَلَمْ تَرَ} هنا تأتي بمعنى: ألم تعلم(2).

فكأنك ترى ما يخبرك به وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك، فالعين هي حاسة من حواسك، والحاسة قد تخدع ولكن ربك لا يخدع، إذن في {أَلَمْ تَرَ} تعني: ألم تعلم علم اليقين، وكأنك قد رأيت ما يخبرك به الله(3).

وخلاصة المعنى: لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جليّة بيّنة، كأنها في تعيينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر، وإن كانت رأى بمعنى عَلِم، فالمعنى: تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها، وإذا تأملتها علمت أيها المكلّف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات(4).

والخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ولكل متدبّر معتبِر من أمته، يدعوه إلى الاستفادة والاعتبار من قصة إبراهيم - عليه السّلام - مع الملك(5).

‌ب- {إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}:

قيل: هذا الذي حاجّ إبراهيم في ربّه هو ملك بابل: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ويُقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن ثالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح(6)، والأول قول مجاهد وغيره(7). وعدم ذكر اسمه في الآية؛ لأنَّ اسمه لا يزيد في العبرة التي تمثلها الآية شيئاً(😎.

لم يذكر القرآن الكريم اسم هذا الملك الجبار، ولم يسمّيه كذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالتالي فالأولى التوقف عن تسميته، حيث إنَّ الحق سبحانه وتعالى قد عرّف هذا الطاغية بالاسم الموصول، ولم يصرح باسمه لما في ذلك من تحقير له وإهمال، وأنه لا يستحق أن يذكر اسمه، ولأنَّ اسمه لا يهمّ المخاطب في شيء لحصول الفائدة والعبرة من ذكر قصته دون الحاجة إلى معرفة اسمه، ولتصدُق العبرة على كل جبار تُسوّل له نفسه التجرّؤ على الله(9).

ومعنى {حَاجَّ}: خاصم وهو فعل جاء على زنة المفاعلة(10)، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أي: المقصد المستقيم، والذي يقتضي صحته أحد النقيضين(11). والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يردّ الآخر عن حجته ومحجته، والأغلب أنه يفيد الخصام بباطل(12).

قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} ]الأنعام:80[، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} ]غافر:47[، وفي المحاجّة وجهان محتملان؛ أحدهما: أنه معارضة الحجة بمثلها، والثاني: الاعتراض على الحجة بما يبطلها(13).

ويقول أبو زهرة: وفي تسمية كلامه حجة، هو من قبيل المماثلة أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله، فقد توهّم وتخيل، ثم ظنَّ فضل عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق، ووقع في أمور لا يقبلها أي عقل سليم، فمعنى {الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}: أنه خاصمه خصاماً باطلاً في شأن صفات الله ربّ إبراهيم(14).

وهذا الملك {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} أي رفض دعوة إبراهيم - عليه السّلام - الموجهة له كي يتخلى عن ادّعاء الربوبية ويعلم خضوعه لله رب العالمين واستسلامه واتّخاذه له رباً(15).

وإن إبراهيم - عليه السّلام - يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا الطاغية يجادل بالباطل في ربوبية وأولوهية الله عزّ وجل(16). والضمير المضاف إليه {رَبِّهِ} عائد إلى إبراهيم - عليه السّلام - والإضافة لتشريفه - عليه السّلام -(17)

‌ج- {أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}:

إنَّ هذا الملك حاج إبراهيم في ربّه لم يكن منكراً لوجود الله أصلاً، إنما كان منكراً لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجرب فيه وحده كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله، ولكنهم يجعلون له أنداداً ينسبون إليها فاعلية وعملاً في حياتهم، وكذلك كان منكراً أن الحاكمية لله وحده، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع(18).

إنَّ هذا الملك المنكِر المتعنّت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر، هذا السبب هو: {أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، وجعل في يده السلطان، لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف، لولا أن الملك يطغى ويبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام، ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر، ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي بأن يكونوا به المهتدين، فهم حاكمون لأنَّ الله حكمهم، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم، فهم كالناس عبيد الله، يتلقّون مثلهم الشريعة من الله ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء(19).

ومن الدروس التربوية الرائعة في قوله تعالى: {أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} أنَّ النعم قد تكون سبباً للطغيان؛ لأنَّ هذا الرجل ما طغى وأنكر الخالق عزّ وجل، إلا لأنَّ الله تعالى آتاه الملك، ولهذا أحياناً تكون الأمراض والفقر والمصائب نعمة على العبد؛ لأنّ الإنسان إذا دام في نعمة وفي رغد، وفي عيش هنيء، فإنه ربما يطغى وينسى الله عزّ وجل(20).

مراجع الحلقة السابعة والسبعون بعد المائة:

(( قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، ص43.

(2) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (2/1122).

(3) المرجع نفسه، (2/1122).

(4) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (2/956).

(5) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/338).

(6) تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، (4/568).

(7) التناسب القرآني في آية قصة إبراهيم عليه السلام والملك نمرود، مريم نافل الدويلة، ص41.

(😎 المرجع نفسه، ص41.

(9) الحوار في قصة الخليل عليه السلام في القرآن دروس وعبر، محمود سعد عبد الحميد شمس، ص432.

(0 ) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (3/32).

(1 ) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص119.

(2 ) التناسب القرآني في آية قصة إبراهيم عليه السلام والملك نمرود، مريم نافل الدويلة، ص41.

(3 ) النكت والعيون "تفسير الماوردي"، أبو الحسن الماوردي، (1/329).

(4 ) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (3/32).

(5( القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/338).

(6( قصص القرآن، محمد بن صالح العثيمين، ص44.

(7 ) التناسب القرآني في آية قصة إبراهيم عليه السلام والملك نمرود، مريم نافل الدويلة، ص42.

(8 ) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/297).

(9 ) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/297).

(20) تفسير القرآن الكريم، محمد بن صالح العثيمين، (3/285).

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022