تأملات في الآية الكريمة:
{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 178
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1444ه/ يناير 2023م
يبدو أن إبراهيم - عليه السّلام - قال هذا جواباً لسؤال وجهه إليه الطاغية كما قال موسى - عليه السّلام - عندما سأله فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} ]طه:49-50[، فموسى - عليه السّلام - برهن على وجود الله تعالى بالخلق والهداية، وكذلك إبراهيم - عليه السّلام - في سورة الشعراء {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}. وهنا برهن إبراهيم - عليه السّلام - على وجود الله تعالى بالإحياء والإماتة، وكلها من الأدلة الظاهرة الواضحة، والحجج القاطعة البيّنة التي لا ينكرها إلا الذي غشيته الظلمات الكثيفة وحجبته الحجب الغليظة(1).
وفي تقديم الحياة على الموت في قوله تعالى: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}: لأنَّ المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى، وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شكّ أن عجائب الخلقة حال الحياة واطلاع الإنسان عليها أتمّ، فلا جرم وجوب تقديم الحياة ههنا في الذكر(2). وكما أن التعبير بالمضارع {يُحْيِي وَيُمِيتُ} يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحسن كل يوم(3).
واختصّ إبراهيم - عليه السّلام - من آيات الله بالإحياء والإماتة؛ لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها وأدلّها على تمكن القدرة(4).
وفي قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} عبّر المولى عزّ وجل بالفعل المضارع؛ لإفادته معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر، أي ربي هو الذي يحيي الناس ويميتهم، كما ترى ذلك مشاهداً في كثير من الأوقات، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع، وأن تقلع عما أنت عليه من كفر وطغيان وضلال(5).
هو {يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ لأنّه المنفرد بأنواع التصرف، وخصّ منه الإحياء والإماتة؛ لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأنَّ الإحياء مبدأ الحياة الدنيا، والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة(6).
وإنَّ الدليل على وجوده هو هذه المعجزة المتكررة، والظاهرة المستنيرة، معجزة الحياة والموت، فلا حياة من غير محيي، ولا موت من غير مميت، وهو الربّ الذي أدعو إلى عبادته وتوحيده(7).
فإن الخليل إبراهيم - عليه السّلام - استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها على وجود فاعل، ذلك الذي لا بُدّ من استنادها إلى وجود ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولا بُدّ من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر، وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها(8)، ولهذا قال إبراهيم {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
لقد بيّن إبراهيم - عليه السّلام - للملك الطاغية عجزه البشري الذي لا يجعله إلهاً أو رباً، وتناول - عليه السّلام - مسألة الحياة والموت وهي مسألة ملحوظة ومعاشة، ففي كل يوم وكل ساعة يولد أشخاص ويَحيَون، وفي كل يوم وكل ساعة يموت أشخاص ويُدفنون، والموت والحياة بيد الله، ولهذا قال إبراهيم لذلك الملك: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
من الذي يخلق الناس؟ إنه الله، من الذي يجعلهم يولدون ويحيون ويعيشون؟ إنه الله، وثم من الذي يميت الناس؟ إنه الله، ومن الذي يُنهي آجالهم ويقبض أرواحهم؟ إنه الله، الله الذي يحيي ويميت وهذا أمر بدهيّ وفطريّ، يعلمه الناس جميعاً، مسلموهم وكافروهم على السواء(9).
لقد عَرَّف إبراهيم - عليه السّلام - ربّه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد، وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره.. قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، فهو من ثم الذي يحكم ويشرع(10).
لكن الملك الطاغية الذي حاجَّ إبراهيم - عليه السّلام - في ربّه رأى كونه حاكماً لقومه وقادراً على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهراً من مظاهر الربوبية، فقال لإبراهيم: أنا سيّد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم، فأنا إذن الربّ الذي يجب عليك أن تخضع له وتسلم بحاكميته(11).
مراجع الحلقة الثامنة والسبعون بعد المائة:
(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (1/386).
(2) التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، (7/24).
(3)زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (2/957).
(4) البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، (2/299).
(5) البعد العقدي في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه من خلال القرآن الكريم، فاطمة محمد أحمد علي، ص87.
(6) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" (1/189).
(7) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (1/386).
(8) البداية والنهاية، ابن كثير، (1/182).
(9) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/339).
(10) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/298).
(11) المرجع نفسه، (1/298).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي