الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

تأملات في الآية الكريمة:

{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 156

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأول 1444ه/ ديسمبر 2022م

 

قال ابن كثير: وهذا الغلام هو إسماعيل - عليه السّلام -، فإنه أول ولد بُشّر به إبراهيم - عليه السّلام -، وهو أكبر من إسحاق، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نصِّ كتابهم أن إسماعيل وُلد وعمر إبراهيم - عليه السّلام - ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم - عليه السّلام- أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة "بِكْره"، فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً "إسحاق"، ولا يجوز هذا؛ لأنَّه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا "إسحاق"؛ لأنَّه أبوهم وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادهم ذلك وحرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جانب مكة، وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يُقال: "وحيدٌ" إلّا لمن ليس عنده غيره، وأيضاً فإن أول ولد له معزّةٌ ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.

وقد ذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السَّلف، حتى نُقل عن بعض الصحابة أيضاً، وليس ذلك في كتاب ولا سنَّة وما أظنُّ ذلك تُلقى إلّا عن أحبار أهل الكتاب، وأُخذ ذلك مسلّماً من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ]الصافات:112[. ولمَّا بشّرت الملائكة إبراهيم بإسحاق، قالوا:{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} ]الحجر:53[. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ]هود:71[ أي: يولد له في حياتهما ولدٌ يُسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل، وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأنَّ الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً، وإسماعيل وُصف ههنا بالحليم؛ لأنَّه مناسبٌ لهذا المقام(1).

هذا وقد استجاب الله دعاء إبراهيم - عليه السّلام - وبشّره بغلام حليم، والحِلم كما نعلم هو العقل والأناة والتبصّر والرزانة والصبر(2).

وما من شكٍّ أنَّ الحِلم من الأسس الأصيلة للنجاح في الدعوة، وقد أتى هذا الغلام على كُبر من سنّ والده وأتى والده لهفة للولد، وأتى بكر والده وكان وحيداً وكان أمل والده فيه ومستقبله كبيراً؛ خصوصاً لأنَّ الله منحه عقلاً وذكاءً ونجابة، ومن أجل ذلك كان قرّة عين والديه، وكان حبّهما له كبيراً(3).

وفي قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}؛ انطوت البشارة في الآية على ثلاثة: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان – الحُلم - فالصبي الصغير لا يوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً موصوفاً الحلم، و"الغلام" هو الصبي من حين يولد إلى أن يشبّ، ومثناه: غلامان، وجمعه: غَلمة وغُلمان (4).

وقد بيّنا أنَّ الغلام الذي بشر الله به إبراهيم - عليه السّلام - هو إسماعيل، وإسماعيل: اسم أعجمي، فهو لا يتصرف للعلمية والعجمية، وفي تاج العروس قال السيد الزبيدي: إسماعيل معناه بالسريانية: مُطيع الله، ولذا يكنى من كان اسمه إسماعيل بأبي مطيع، وفي بصائر ذوي التمييز، قال الفيروز آبادي: وإسماعيل بن إبراهيم هو أول من سُمي بهذا الاسم من بني آدم(5).

وبعض اللغويين يرى أن "إسماعيل" مركب من كلمتين: الأولى مشتقة من سمع، والثانية من إيل، وهو اسم الله عزّ وجل، فإن كان وزنه "افعاليل" فمعناه: أسمعه الله أمره فقام به، والّذي قال: وزنه "فعاليل"؛ لأنّ أصله سماعيل، قال: معناه سمع من الله قوله فأطاعه(6).

 

مراجع الحلقة السادسة والخمسون بعد المائة:

(1) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (7/27).

(2) درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ص265.

(3) قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص125.

(4) من لطائف التعبير القرآني حول سير الأنبياء والمرسلين، محمد فؤاد سندي، ص183.

(5) يُنظر: تاج العروس في جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، مادة (سمعل)، وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروز آبادي، (6/139).

(6) ويقال فيه: اسماعين بالنون، وزعم ابن السكيت أن نونه بدل من اللام.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022