تأملات في الآيتين الكريمتين:
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ*}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 154
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأول 1444ه/ ديسمبر 2022م
إنّه منطق الحديد والنار، الذي لا يعرف الطغاة منطقاً سواه؛ عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين(1).
1-قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}:
أي: ابنوا له بنياناً مشرفاً على النار التي أوقدوها فألقوه فيها.
ولم يتزعزع إبراهيم - عليه السّلام - ولم يضطرب، بل بقي رابط الجأش، ثابت القلب، ولم تؤثر فيه ألسنة النيران المتصاعدة في جوِّ السماء، ولا صرخات الجماهير المزدحمة حوله، وكان - عليه السّلام - يرددّ بقلبه ولسانه: حسبي الله ونعم الوكيل(2).
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم - عليه السّلام - حين اُلقي في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قالوا: {..إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ]آل عمران:173[ (3).
2-قوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}:
وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل - من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء - إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟ (4)
ومعنى {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}: أي في هذا المقام، وفي هذا الموقف الذي فعلوه بإبراهيم؛ لأنّهم ظنوا أنهم تعالوا على إبراهيم وتمكّنوا منه، وقدروا على إلقائه في النار فعلاً وهي مشتعلة، وظنّوا ساعتها أنهم العالُون.
لكن سرعان ما تكشّفت حقيقة الموقف، وظهرت الآية الكبرى التي أرادها الله تعالى، فلو أراد الله لنجا إبراهيم - عليه السّلام - فلم يتمكنوا من الإمساك به، ولو أراد سبحانه لأمطرت السماء على النار فأطفأتها، لكن أراد الله أن يُبطل حججهم، فلو هرب إبراهيم - عليه السّلام - من أيديهم لقالوا لو لم يهرب لأحرقناه، ولو أمطرت السماء لقالوا: ظاهرة طبيعية لا دخل لنا بها، لكن ها هو إبراهيم، وها هي النار تشتعل، ومع ذلك ينجو إبراهيم بعد أن جاء نداء الحقِّ وكلمة الحقِّ للخلق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ]الأنبياء:69[، جاء الخطاب من الله تعالى والأمر للنار على طبيعتها وبذات مواصفاتها: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} لا في ذاتك إنما على {إِبْرَاهِيمَ} فهي مثل شجرة الزقوم، تبدو لهم شجرة خضراء وهي نار تحرقهم، وهكذا جعلهم الله في هذا المقام {الْأَسْفَلِينَ} أي: في الكيد الذي دبّروه، فهم يكيدون، والله يكيد وسنن الله جارية في أنبيائه المرسلين وأوليائه المتّقين(5).
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} ]الطلاق:2-3[، و{ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }؛ أيّ أن الأمور مغلقة والحلقة محكمة، والأبواب موصدة والسبل مسدودة، فالله يجعل له مخرجاً بعد أن لم يكن، فلذلك هذه القصة ليست مقصودة لذاتها، بل يجب أن نستنبط منها أن الله سبحانه وتعالى ينجب المؤمنين، فهنيئاً لمن أخلص لله، وهنيئاً لمن اتّبع رضوان الله، وهنيئاً لمن جعل همَّه مرضاة الله عزّ وجل، وهنيئاً لمن جعل كل قدر الله في خدمة الحقِّ، هذا هو السعيد(6).
مراجع الحلقة الرابعة والخمسون بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2993).
(2) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (7/157).
(3) صحيح البخاري، رقم (4563).
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2993).
(5) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (20/12796).
(6) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (10/452).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي