الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

تأملات في الآية الكريمة:

{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 150

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأول 1444ه/ ديسمبر 2022م

 

أي إني مريض القلب من عبادتكم غير الله تعالى، فظنّ قومه أنه مريض حقاً بمرض بدني، والمراد هنا: سُقم القلب وشغله بما لا يستطيع الإنسان تحمّله من إنكار القوم لمسألة الألوهية في عبادة الله الواحد الأحد، فهذه قضية تتعبه وتؤرّقه، وهذا هو السقم الذي أراده سيدنا إبراهيم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}.

وقد أخبر قومه أنه سقيم، ويبدو أن إخباره لهم بذلك، جاء رداً على دعوتهم له للخروج معهم إلى البرِّ للاحتفال بالعيد؛ ولذلك تركوه وحدَّه، وخرجوا هم للاحتفال(2).

وأما الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات؛ ثنتين منهن في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقوله للملك الظالم عن زوجه سارة: أنّها أخته"(3).

وقد بيّن العلماء مفهوم الحديث والمقصود منه بأن إبراهيم - عليه السّلام - لم يكن كاذباً في قوله {إِنِّي سَقِيمٌ}، بل كان صادقاً في ذلك ومعنى {سَقِيمٌ} مريض، ومرضه ليس مرضاً عضوياً جسمياً مادياً، أي: لم يكن مرضه في جسمه، في يديه أو رجليه مثلاً، إن سقمه ومرضه في نفسه، فهو سقيم سقم نفسي معنوي؛ لأنّه قرُب حلول عيدهم، ولأنهم يفجرون ويكفرون في عيدهم، فلمّا حلّ العيد تألّم إبراهيم وحزن مما سيفعلونه، وأصيبت نفسه بالهمِّ والغمِّ والضيق والألم، وهذا سقم نفسي أصاب نفسه، فهو إذن صادق في قوله لهم {إِنِّي سَقِيمٌ}(4).

وأما لماذا اعتبر الحديث هذا القول من إبراهيم كذباً؟ لأنّه يشبه الكذب في الظاهر، بينما هو يختلف عنه في الحقيقة، فعندما سمع القوم من إبراهيم أنه سقيم، فهموا منه السقم الجسمي والمرض العادي والسقم النفسي المتمثّل في الهمّ والحزن.

أي أن إبراهيم - عليه السّلام - استخدم طريقة "المعاريض"، والمعاريض مأخوذة من التعريض، وهو أن تتكلم بكلام تريد به شيئاً بينما يفهم منه المخاطب شيئاً آخر، والمعاريض تشبه الكذب في الظاهر، لكنها ليست منه، وإنما هي من الحقيقة و"إن في المعاريض لَمَنْدوحةً عن الكذب"، فهي تغني عن الكذب، ومن اضطرّ إليها يستخدمها وهو صادق ولا يستخدم الكذب، وهذا ما فعله إبراهيم عليه السّلام، فقوله من باب المعاريض وليس من باب الكذب، والله أعلم.

قال ابن قُتَيْبة رحمه الله: جاءت الرخصة في المعاريض، وقيل: إن فيها عن الكذب مندوحةً، فمن المعاريض قولُ إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم في امرأته: إنها أختي، يريد أن المؤمنين إخوة، وقولُه: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ }؛ أراد: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فجعل النطق شرطًا للفعل، وهو لا ينطق ولا يفعل، وقولُه: { إِنِّي سَقِيْمٌ }؛ يريد سَأسْقَمُ؛ لأن من كُتب عليه الموت والفناء فلا بد من أن يسقَمَ، قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ]الزمر:30 [، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم مَيِّتًا في وقته ذلك، وإنما أراد أنك ستموت وسيموتون(5).

والمهم أن إبراهيم - عليه السّلام - قال لقومه: {إِنِّي سَقِيمٌ} وهو يقصد الحزن، والغمّ والهم، ففهموا منه سقم الجسم والبدن، فتركوه وذهبوا إلى الاحتفال في عيدهم(6).

 

مراجع الحلقة الخمسون بعد المائة:

(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (7/156).

(2) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/344).

(3) صحيح البخاري، رقم (2217)، صحيح مسلم، رقم (2371).

(4) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/345).

(5) تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة الدِّينوري،، ص 81.

(6) القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/346).

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022